بقلم/ رفعت سيد أحمد
لقد أثبتت الموجة الداعشية وثورات ما سُمّي بالربيع العربي أن أحد أبرز أهدافها كان هو تمزيق صفوف المسلمين وتحويل ساحتهم إلى خنادق للصراع والاحتراب، ودفعهم إلى انتهاك حُرمات بعضهم بعضاً، وإسقاط كل طرف وتشويهه لرموز وشخصيات الطرف الآخر، وهو هدف يُعدّ بمعايير الدين الصحيح جريمة أكبر وخطراً أعظم.

مع غروب موجة الإرهاب الداعشي وهزيمتها، بدءاً بالعراق وانتهاء بسوريا، ينبغي للأمّة أن تقف ملياً أمام تلك الموجة المُجرمة من الإرهاب المُسلّح الذي خطف الإسلام وصادره لأكثر من ثماني سنوات عِجاف سُمّيت زوراً بسنوات الربيع العربي، والوقوف هنا هدفه التعلّم والحَذَر حتى لا تعود موجات الإرهاب بإسم الدين ثانية وتعيش بلادنا نفس الدورة من الفوضى والدمار.

وفي إطار مواجهة الظاهرة من جذورها لا بدّ وأن نبدأ بفَهمها، وفي هذا السياق يُحدّثنا التاريخ الإسلامي بأن التعبير عن الرأي الاجتهادي عقديّاً وفُقهيّاً ظلّ في أدبيات الإسلام ضمن الضوابط المُقرّرة، وكان أمراً مشروعاً، وحقاً مكفولاً للجميع، ولا يصحّ أن تحتكره جهة وتصادره من الآخرين، فإن ذلك إرهاب فكري، وإغلاق فِعليٌّ لباب الاجتهاد، وحِرمان للساحة العلمية من الثراء المَعرفي.

لكن الحَذَر كان ولا يزال من وجود آراء خاطئة، وطروحات مُنحرِفة، تخالف المُعتقدات السائدة، والاتجاهات الفُقهية المشهورة، كما هي حال موجات القاعدة وداعش وأخواتهم وهذا يتم التصدّي له، ليس بالاستعراضات الفكرية بل بالمواجهة العلمية الفُقهية الرصينة، التي تثبت ضعف الرأي الآخر وخطأه، ومكامن الانحراف والثغرات فيه، وتظهر صحّة الرأي الإسلامي الحق وأصالته، وتُعالج الإشكالات المُثارة حوله.

أما أساليب القمع والإرهاب الفكري فإنها لا تستطيع أن توقف زحف الرأي الآخر، بل قد تخدمه بإثارة الاهتمام به، وتكتّل أتباعه للدفاع عنه، وربما تعاطُف الكثيرين معه.

لقد أثبتت الموجة الداعشية وثورات ما سُمّي بالربيع العربي أن أحد أبرز أهدافها كان هو تمزيق صفوف المسلمين وتحويل ساحتهم إلى خنادق للصراع والاحتراب، ودفعهم إلى انتهاك حُرمات بعضهم بعضاً، وإسقاط كل طرف وتشويهه لرموز وشخصيات الطرف الآخر، وهو هدف يُعدّ بمعايير الدين الصحيح جريمة أكبر وخطراً أعظم.

ثم إن تعاليم الإسلام وأخلاقياته، وسيرة النبي والأئمّة والصحابة الأخيار ترفض الإرهاب بإسم الدين ولا تقبل مثل هذه الأساليب ولا تتطابق معها، فالإرهاب الذي اختطف الإسلام أول ما طال، طال البلاد الإسلامية نفسها، في البداية لأسبابٍ مختلفة ولكنها تعود لأصلٍ واحدٍ هو الفَهْم الخاطئ والـتأويل المُتعسّف لآيات القرآن الكريم، والتي تذهب لغير المعاني التي يجب فَهمها على حقيقتها القرآنية، وفي تاريخ ظاهرة الإرهاب تُحدّثنا وقائع التاريخ أن أغلب الدول الإسلامية، شهدت منذ مطلع سبعينات القرن العشرين، تنامي وبروز ظاهرة ما سُمّي بالإحياء الإسلامي أو الصحوة الإسلامية، وهي ليست بالظاهرة الحديثة أو الجديدة، بل يمكن تتبّع جذورها وامتداداتها عبر التاريخ الإسلامي بخبراته ومراحله المختلفة، واتّخذت هذه الظاهرة صوَراً وأشكالاً مُتعدّدة، ثقافية وفكرية، اقتصادية واجتماعية، سياسية وسلوكية، وقد تضمّنت الكتابات والدراسات التي تناولت تلك الظاهرة مجموعة ضخمة من المُصطلحات لتعريفها، منها على سبيل المثال: الإسلام السياسي، ويُقصَد به توظيف الإسلام لتحقيق أهداف سياسية، والإسلام التقدّمي وهو الذي يتضمّن تطبيق الاشتراكية ولا يتعارض مع التحديث، والإسلام التقليدي وهو الذي يتعارض مع العِلمانية والتحديث، وإسلام الصحوة، والإحياء الإسلامي والأصولية الإسلامية وغيرها، ولكن يُلاحظ أن هناك مَن استخدم في تعريف ظاهرة الإحياء هذه مُصطلحات ومفاهيم تربط بين الإسلام وأنماط من العنف والإرهاب مثل: الإسلام الثوري والإسلام الراديكالي والإسلام من أعلى والإسلام المُتشدّد والإسلام المُسلّح والعنف الإسلامي وأخيراً الإرهاب الإسلامي، ولقد استخدمت بعض فصائل الصحوة الإسلامية العنف السياسي كوسيلةٍ للتغيير في بلدانها، كما في حال جماعتي الجهاد والجماعة الإسلامية في مصر، وفرع جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، وحزب التحرير في الأردن، بينما استخدمت جماعات أخرى القوّة بعد فشل تجربتها في الوصول إلى الحُكم من خلال صناديق الاقتراع كما في حال جبهة الإنقاذ في الجزائر، بينما استطاعت حركات وفصائل الوصول إلى السلطة بالفعل باستخدام القوّة أو الجيش كما في حال السودان، وتستخدم فصائل وجماعات تنتمي إلى الإسلام كمرجعية سياسية القوّة في مقاومة الاحتلال كما في حال حماس والجهاد في فلسطين، وحزب الله في لبنان.

أما ما جرى خلال الفترة من 2011 إلى اليوم 2019 فلقد كان عُنفاً أعمى ضد الإسلام ذاته، لقد أضحى هذا العُنف الذي تمارسه تلك الجماعات (من القاعدة إلى داعش والنصرة)، إفرازاً لفلسفة معيّنة وثمرة لفُقه خاص له وجهته ومفاهيمه وهو بالأساس الفكر الوهّابي الذي نبت وترعرع في السعودية، وهو في تقديرنا أصل البلاء ومصدره الذي يستوجب من كل عُقلاء الأمّة أن يدعوا إلى اجتثاثه لأنه امتداد لفكر وفُقه الخوارج قديماً الذين كانوا يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم.

وهو فكر لا يفهم لغة العقل ومن ثم لا يفهم صحيح الإسلام، ذلك الدين الذي يدعو إلى إعمال العقل في كل أمور الحياة مع استبعاد لغة العنف والقمع، وإنما بمنطق الحجّة والبرهان: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾. ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾. ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَة﴾. ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾.

تلك هي المبادئ الناظِمة للمواجهة الفكرية، لإثبات حقّانية الدين وبُطلان ما عداه.

ولا يقبل الإسلام الإساءة إلى المُخالِف في الدين والرأي لمُجرّد مُخالفته، ما لم يمارس عدواناً يستلزم الردّ والردع.

كما لا ينصح الإسلام بالقطيعة مع المُخالفين، بفصل وشائج العلاقات الإنسانية والاجتماعية معهم. بل على العكس من ذلك يوصي بالبرّ بهم والإحسان إليهم ما داموا مُسالمين غيرمُعتدين.

يقول تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾، ذلك هو طريق الأنبياء في فَهمهم للدين، وفي ما أخذوه من الله سبحانه وتعالى، التسامُح والعدل والإخاء وعدم إكراه الناس على الدخول في الدين، وتلك مفاهيم وقِيَم تُخاصمها الداعشية لأنها إبنة الفكر الوهّابي الذي قام على التكفير وإقصاء المُخالف بل وذبحه، ولنا في تاريخ الوهّابية وآل سعود عِبَر ودروس، إن الإرهاب بإسم الدين هو أخطر أنواع الإرهاب، هكذا قالت لنا السنوات الثماني الماضية في ذلك الربيع المُزيّف ومن المفيد ألا ننسى ما قالته وأن نستوعبه جديداً، والله أعلم.

*كاتب ومفكر قومى من مصر
رئيس مركز يافا للدراسات والأبحاث القاهرة.

نقلاً عن الميادين

حول الموقع

سام برس