بقلم/عبدالباري طاهر

بعد دقائق من زيارتي إلى منزله قرب "نادي الصيد" في القاهرة ، وتسليمه كيساً صغيراً من البن ورسالة من صديقه عبدالعزيز المقالح إستوقفني الشاعر المصري الراحل صلاح عبدالصبور بعبارة "إستنى شوية يا ابني" ذهب بعدها صلاح لإعداد فنجانين صغيرين من القهوة ، أعطاني ذلك فرصة لاختلاس نظرة إلى جملة صغيرة في رسالة المقالح إليه : " أرسل إليك هذا بمعيّة أحد أذكى التلاميذ وأنجبهم" ولحظتها أدركت لماذا استوقفني الرجل.

عاد صلاح الذي كان يتعافى من بعض التوعك ، وبعده جاءت بالقهوة زوجته الفاضلة "سميحة غالب" وأفصحت لي بسعادة صلاح بلقاء أحد خلصاء صديقه عبدالعزيز ، قالت لي لحظة ذاك إنني أجلس على ذات الكرسي الذي كان يجلس عليه عبد العزيز لسنوات مع صلاح ومعهما الكثير من "رواد" الحداثة الشعرية العربية.

حينها وعيت أكثر مما كنت قد عرفته عن عبدالعزيز.

ومن وفاء الزوجين الجليلين ، صلاح وسميحة مما قد لا يعرفه عبدالعزيز أنهما أطلقا على ذلك المقعد في ركن منزلهما إسم "كرسي المقالح" أو "الكرسي بتاع عبدالعزيز" كأنهما لم يريدا تخيل أن عبدالعزيز غادر البلاد نهائياً بعد أن قرر الرئيس المصري الأسبق أنور السادات ترحيله من البلاد على خلفية موقفه المعارض لمعاهدة كامب ديفيد عام ١٩٧٨.

صحيح أن ذلك الكرسي ظل محتفظاً برائحة المقالح لكنني كنت لا أريد العودة للجلوس عليه كلما دعاني إلى ذلك عبد الصبور بعيداً عن مكتبه في مؤسسة "روز اليوسف" ذلك لسبب واحد وهو أنني كنت أريد الخلاص من هكذا تصور لدى عبدالصبور عن علاقتي بالمقالح ، فأنا في النهاية واحدٌ من آلاف من تتلمذوا على يديه ، ولست إبنه أو جاهزاً للرد على كل أسئلة عبدالصبور عنه ، ماذا يفعل؟ مع من يجلس؟ وكيف يقضي أوقاته في صنعاء؟

لقد كنت في ذلك الوقت من حياتي ، وفي حضرة شعراء كبار من أمثال عبدالصبور بحاجة لأن أذهب إلى ذاتي ، إلى أنور العنسي متخففاً من ظل المقالح على صورتي لدى أصدقائه ، لكنني فشلت في هذا المسعى لفترة من الزمن.

ظلت العلاقة مع الرجل شائكة ، فعبدالعزيز الجميل ، الأنيق ، القوي ، المتمكن ، علماً وجمالاً وأستاذية في النقد وعلوم الأدب الذي تقرؤه في كتبه ودراساته وأبحاثه كان لا يبدو أحياناً أنه هو عبدالعزيز نفسه الذي تخالطه في حياته اليومية وتجلس معه ، شأنه في ذلك شأن عشرات من المبدعين الكبار.

قد تغضبه هذه الملاحظة لكن الحقيقة أنه كان كذلك ، عملاقاً في فكره وعطائه وإنتاجه ، لكنه كان لسبب لا أفهمه غير ذلك في تعامله مع من حوله خصوصاً عندما كان بإرادة منه أو بدونها يحيط نفسه بأناس ما كان يجب أن يكون لهم في مكانه مكان.

لقد كان يبدو لي متناقضاً ، ودوداً ولدوداً معاً، قريباً منك وبعيداً عنك في نفس الوقت ، إلى آخر ذلك من المنحنيات التي لا يمكن شرحها في مقال أو يحيط بها كتاب.

حاولت إقناع نفسي أن آخذ منه ما يفيد وأترك ما لا يفيد ، أن أنظر بعينٍ مفتوحة إلى ما يهم فيه ، وأن أغض الطرف عما لا يهم ، لكن المشكلة أن الرجل أسرني بطريقته في التفكير والعمل إلى حدٍ أخذ من تلميذه "النجيب" سنواتٍ بل عقوداً للفكاك منه.

كاد اللقاء اليومي معه أن يصبح نوعاً من البروتين الثقافي الذي يلزم عليك أن يتغذى عليه عقلك كل يوم ، فالصحف والمجلات والإصدارات الثقافية العربية الجديدة لا يمكنك أن تراها إلا في مجلسه ، بل المقالح نفسه ، لكن التخلي عن هذا المجلس اليومي كان لا يصيبك بالوجع فقط بل بالشعور بالتخلف والجهل بمستجدات المشهد الثقافي حول العالم والسباحة خارج الجاذبية ، فمجلس الرجل عامر في الأغلب بمثقفين يمنيين وعرب وأجانب أحياناً لا يمكنك تفويت فرصة اللقاء بهم.

عدت إلى صلاح عبدالصبور بعد حين من الدهر قبل وفاته لأفهم منه تلكم التعقيدات في العلاقة مع المقالح ، تحدثنا في أمور "الحداثة" وهمومها ، وفي كل مرة معه أو مع عبدالعزيز لم أكد أعرف من هو صلاح ومن هو المقالح فقد كانا يشبهان بعضهما عقلاً وشكلاً إلى حد يتعذر تصوره.

لم تكن مجرد علاقة شخصية فحسب ، بل صداقة مشروع ، رفقة همّ اشتغلا عليه ، وأمضيا عشرات الساعات والأيام للبحث والنقاش حوله مع غيرهما ممن شاركاهما ذلك في ركن منزل صلاح.

من المؤكد انهما أحدثا فتحاً مهماً في تاريخ الحداثة الشعرية مع الاحترام التام لما مثلته الحالات الفردية السابقة لبدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي وتالياً لنزار قباني وأدونيس وسواهما.

تأكد لي أن المقالح وصلاح فعلا ذلك بشكل منظم ، ممنهج ، ومدروس ، ففي سنوات لاحقة تعرفت إلى ضلعهما الثالث "أحمد عبدالمعطي حجازي" الذي كان مقيماً حينذاك في باريس لأسباب قد تكون خاصة بحاجته إلى حرية البحث والسؤال، تحدثنا طويلًا ، أجريت معه حوارات تليفزيونية عميقة طويلة. لكنني أدركت أن حجازي هو نفسه المقالح وعبدالصبور معاً مع بعض الاختلافات الطفيفة.

في لقاءاتي الأخرى المنفردة مع الثلاثة في القاهرة وصنعاء وباريس وجدت صعوبات بالغة في فصل كل منهما عن سواه.

لم أشأ أن أذهب إلى مقارنات بين ظروف الولادة والنشأة والتعليم لأفهم "سر" هذا التوافق أو لمعرفة من كان الأكثر تأثيراً في الآخر ، لكن خلاصة ما خلصت إليه أن الكل كان صاحب تأثير على الآخر بدرجة لا يمكن عدم إدراكها.

أما لماذا كنت مهمومًا بتفسير هذه القصة فلأن عبدالعزيز قاد في حياتنا في ذلك الوقت طوفاناً من التغيير على أكثر من مستوى ، من التعليم إلى الشعر ، والثقافة عموما.

لم يكن لنا في تلكم الأيام بحر ، لكن عبدالعزيز كان محيطنا ، بحرنا ، نيلنا ، دجلتنا والفرات.

ربما تساءل البعض عن سبب عدم منح المقالح جائزة "نوبل" للآداب قياساً على عطائه الغزير والوافر المتنوع لأكثر من نصف قرن ، وَلَكِن أكاد أتساءل ، ما هي "نوبل" أساساً؟ هذه الجائزة لن تزيد من قدره ، بل إنه هو نفسه "جائزة كبرى" للحياة ، للثقافة الإنسانية بمختلف فروعها.

لم يفلح عبدالعزيز في وضع أغلب من يثق بهم في مفاصل النظام السياسي لإحداث التغيير الذي كان يريد لكنه جسد ذلك وحدَه بدأبه ومثابرته رغم قسوة الظروف التي تتالت عليه في الكتابة بعقلانية مقبولة ، بانتظام في الصحف الرسمية لعقود طويلة عدة ، وفي الجامعة خلال رئاسته لها ، وفي مركز الدراسات والبحوث حيث لم يتبن تخليق عشرات الأفكار فقط بل تحول هذا المركز إلى ترسانة من المعرفة ، وإلى كتيبة متقدمة من المثقفين العقلاء وعشاق الحكمة والحداثة والعلم.

لعبد العزيز أرفع القبعة احتراماً ، والمعذرة لما قد يبدو تجاوزاً من تلميذه عليه .


من صفحة الكاتب بالفيسبوك

حول الموقع

سام برس