بقلم/ عبدالباري عطوان
الشهيد رمضان عبد الله شلح الذي عرفناه عن قرب.. مواقف جهادية وإنسانية تعكس شخصية قيادية سياسية وعسكرية فذه.. انه “ناسك” الثورة الفلسطينية وواحد من اصلب رجالاتها.. واليكم بعضا من الانطباعات والروايات الشخصية من ارثه المشرف
قليلون هم الذين عرفوا الدكتور رمضان عبد الله شلح عن قرب، ويشرفنا ان نكون من بين هذه القلة، ولهذا كان حزننا كبيرا بفقدانه، فقد كان قامة جهادية وعلمية وإنسانية شامخة في التاريخ الفلسطيني من الصعب نسيانها او تعويضها، مثلما كان صديقا وفيا نجده مصدر الهام ودعم في المفاصل الصعبة، الوطنية والشخصية.
التاريخ الجهادي الفلسطيني حافل بالشخصيات القيادية التي لعبت دورا متميزا في مسيرة الثورة، لكن الدكتور شلح (أبو عبد الله) يظل علامة فارقة لتواضعه، وثقافته، ونسكه، وادبه الرفيع، ونهجه الهادئ، وترفعه عن الصغائر، حيث كان موضع اجماع، وعنصر توحيد في هذه الثورة، وفي هذه الظروف الحرجة التي تمر فيها.
عندما تجلس معه، لا تشعر انك في معية قائد لحركة جهادية فلسطينية قدمت مئات الشهداء، وزهدت قيادتها وعناصرها في المناصب، والمال ومغريات الدنيا، ونأت بنفسها عن السلطة وامتيازاتها، وعارضت بقوة كل الاتفاقات الإستسلامية، وعلى رأسها اتفاقية أوسلو، وظلت تؤمن، وتقاتل، من اجل تحرير فلسطين، كل فلسطين من البحر الى النهر، وطموحها الأبرز الشهادة لتحقيق هذا الهدف.
عندما زرناه في بيته المتواضع في احد احياء مدينة دمشق التي احبها، مساء احد الأيام، قال لنا انتم تجلسون على المقعد الذي كان يجلس عليه بالأمس، وفي مثل هذا التوقيت (العاشرة مساء) الشهيد الحاج عماد مغنية، قائد الجناح العسكري لـ”حزب الله” حيث تناولنا طعام العشاء سويا، وامتدت بنا السهرة حتى الفجر، حيث ادينا صلاة الفجر سويا، ثم انطلق بعدها متجها الى بيروت، رافضا ان يبيت معنا كعادته في بعض الأحيان، لان هناك مهمة كبيرة في انتظاره هناك، وعلمنا بعد ذلك ان هذه المهمة هي اسر جنديين اسرائيليين من قبل خلية تابعة لحزب الله كان هو قائدها ومهندسها في 12 أيار عام 2006، وهي العملية التي أدت الى عدوان إسرائيلي تمخض عن اكبر هزيمة في تاريخها وتدمير هيبة الجيش الإسرائيلي وسمعته.
كان رحمه الله مولعا بالقراءة باللغتين العربية والإنكليزية، وجمع بين الثقافة الواسعة والمتنوعة، والقدرة العالية على التحليل الاستراتيجي، ليس لأنه كان يحمل درجة الدكتوراة في الاقتصاد من جامعة بريطانية، وانما لشغفه الشديد أيضا بمتابعة كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالعدو الإسرائيلي والعلاقات الدولية، ورصد ما يجري في العالم من احداث وصراعات، بين الشرق والغرب، علاوة على تعمقه في الدراسات الإسلامية بحكم ميوله وشغفه.
لا يعرف الا القلة انه كان مغرما بالشعر العربي، ويحفظ مئات القصائد عن ظهر قلب، خاصة للمتنبي وابي العلاء المعري، ومالك ابن الريب وقصيدته الأشهر التي رثا فيها نفسه وهو جريحا على سرير الموت، ومعظم الشعراء البارزين في العصر الذهبي للشعر العربي، مثلما كان مغرما بكل انتاج محمود درويش الشعري، وقال انه، أي الدكتور شلح، كان يقرض الشعر، وكتب العديد من القصائد، لكنه توقف لانه “لا شعر ولا شعراء ولا ابداع بعد محمود درويش”.
كان الدكتور شلح واحد من ثلاثة طلاب بذروا بذرة التأسيس الأولى لحركة الجهاد الإسلامي، عندما كانوا يدرسون في الجامعات المصرية في أواخر السبعينات من القرن الماضي، وكان الاول الدكتور فتحي الشقاقي، ابن مخيم رفح في القطاع، وأول امين عام للحركة، ونعتذر عن ذكر الشخص الثالث لأنه لم يعطنا الاذن بذلك، ليذهب الدكتور شلح بعدها الى بريطانيا لدراسة الاقتصاد ونيل درجة الدكتوراة، ثم التدريس في احد جامعاتها قبل ان ينتقل الى أمريكا والتدريس في جامعة أمريكية حتى عام 1995، ولكن لم يطل هذا الانشغال عن العمل الجهادي حيث لبى نداء زملائه بترك كل شيء والعودة من أمريكا لتولي زعامة الحركة بعد اغتيال الشهيد فتحي الشقاقي في مالطا عام 1995.
ذكر لنا رحمه الله، انه هاتف والدته في حي الشجاعية في قطاع غزة ليشاورها في امر تولي هذا المنصب، فكان ردها مشجعا، وقالت له بالحرف الواحد مثلما روى لنا “انت ابن فلسطين، وتتميز بالشجاعة، وقد اختارك الله لهذه المهمة المشرفة، فامض قدما، ولا تتردد، الله يحميك يا ابني، فهل هناك اغلى من الشهادة في سبيل الوطن؟”.
تميز المرحوم بالأدب الجم، والحرص على اختيار كل كلمة نقد بعناية لمن يختلف معهم في الثورة الفلسطينية، ورفض كل الضغوط والمغريات لدخول أي انتخابات فلسطينية في اطار اتفاقات أوسلو، وحرص على امر واحد وهو قتال الاحتلال فقط لتحرير فلسطين كل فلسطين غير منقوصة مليمترا واحدا، لهذا احبه واحترمه الجميع، وكان “ايقونة” بالنسبة لعناصر الحركة ويعتبرونه قائدا ورمزا وقدوة.
روى لنا في احد الجلسات قصة قال انها اثرت في نفسه كثيرا، موجزها ان شابا من حي الشجاعية (يأخذ الحي اسمه من شجاعة رجاله وبأسهم الشديد) وهو مسقط رأس أبو عبد الله، اصر على ان ينفذ عملية استشهادية ضد الاحتلال، وعلم الدكتور شلح انه وحيد والديه، فهاتفه ليثنيه عن أداء هذه المهمة، والتفرغ لرعايتهما لتقدم سنهما، ولكنه ابى وترجاه ان ينفذ العملية اذا كان يحبه، وان يموت شهيدا، فداء لفلسطين، وقَبِلَ الحاحه مجبرا، وكان له ما أراد، وانضم هذا الشاب الى قوافل الشهداء.
ارث الدكتور الشهيد رمضان عبد الله شلح الجهادي طويل وعميق وحافل بالمواقف والروايات الوطنية المشرفة، ويحتاج الى كتب عديدة لسرده وتوثيقه وجمعه، ووفاته جاءت خسارة كبيرة لفلسطين والامتين العربية والإسلامية، وعزاؤنا ان حركة الجهاد الإسلامي التي كان احد مؤسسيها تطورت تحت قيادته، وتحولت الى قوة ضاربة تملك ترسانة من الصواريخ التي تقض مضاجع الإسرائيليين قيادة وشعبا، ووصلت صواريخها الدقيقة الى قلب تل ابيب ومطارها، وجعل احداها بنيامين نتنياهو يهرب مثل الجرذ اثناء خطاب انتخابي له في مدينة عسقلان قبل سبعة اشهر وجرى اطلاقه للثأر لاغتيال القائد الميداني المجاهد بهاء أبو العطا.
تعازينا الحارة للشعب الفلسطيني والامتين العربية والإسلامية، وحركة الجهاد الإسلامي، وقائدها الفذ زياد النخالة، الرجل الذي رافق المرحوم مثل ظله، وكان صديقه، وزميله وشريكه الوفي طوال مسيرته الحافلة بالعطاء، وتسلم الراية القيادية بشجاعة ورجولة طوال فترة غياب الدكتور شلح لأكثر من عامين بسبب المرض، وكان نعم الخلف لنعم السلف، فلسطين ولادة.. وعطاء ارحام نسائها خصب ووفير ولن يتوقف بإذن الله، رحم الله الفقيد وادخله نعيم جناته… وانا لله وانا اليه راجعون.
نقلاً عن رأي اليوم