بقلم/ احمد الشاوش
لم يكن الفنان الكبير أحمد السنيدار مجرد مبدع بل حالة نادرة في عالم التراث وفن الغناء الصنعاني الاصيل الذي رقص الطير في سماء صنعاء وحرك الاشجان في تعز الحالمة ودغدغ المشاعر في إب الخضراء وهيج القلوب في عروس البحر الاحمر الحديدة وشماريخ حجة وجبال شمسان ووديان حضرموت ومدينة عدن ، وأسعد قلعة الثقافة والفن في الكويت وعدد من الدول العربية بمشاركاته بعدد من أغاني التراث اليمني الاصيل ، وما أغنية بيسير ويجي ويحانكني ويزيد يعصر والحركات العفوية إلا دليلاً على أصالة وروعة واحساس ذلك الدلال الفني النادر.

لقد كان للحن الجميل والصوت العذب والقصيدة المؤثرة والايقاع النادر والجمهور المثقف والذوق الرفيع بعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر الاثر الكبير في العديد من التحولات الاجتماعية ، وكان للأغنية الوطنية والسياسية والعاطفية دور كبير في تنوير الشعب اليمني بما تحمله من رسائل النضال والكفاح والمعاناة والحب والسعادة والوفاء والتنمية ورسم ملامح المستقبل الذي لا يمكن التعايش فيه إلا في ظل المحبة والتسامح والبناء والاستقرار والايمان بالتنوع الفكري والثقافي والفني والديني والانساني .

لقد أصبح الفنان أحمد السنيدار نجماً ساطعاً في سماء الاغنية اليمنية من خلال العزف واطراب جمهور الفن وتطويع العود والريشة بمهنية المحترف وملاعبة الوتر وانطاقه وترديد النغم وتهييج المشاعر بالصوت واللحن والخامة العجيبة، كما ان الحركات التلقائية أثناء الاداء ودلال الحرف ودلع الكلمة واللهجة الصنعانية الرقيقة التي لاتُمل لانجد لها مثيلاً إلا في دول قطعت شوطاً كبيراً في المدنية والثقافة على غرار مدينة الجن والملائكة باريس وعبق نبلاء اليونان.

ورغم ان الفنان الكبير احمد السنيدار استضافته الكثير من القنوات والاذاعات المحلية والاقليمية وتغطية بعض وسائل الاعلام لمسيرته الحافلة وانتاجه الكبير، إلا انه كان ومازال أكثر تواضعاً وسمعة وانسان وديع ومثقف جدير بالاحترام ونجماً من نجوم الطرب والغناء العربي خلال مسيرته الفنية في اليمن ومصر الكنانة ، وأكثر ولاءاً لوطنة رُغم المغريات والتحولات ، مُفضلاً حالة الصمت والحياة الكريمة والجو الاسري الهادئ .

مازالت الذكريات الجميلة تدور في مخيلتي ومازال صدى " البيكم" واسطوانته الرقيقة الذي كان من مقتنيات الاسر الكبيرة كبيت السنيدار وبيت الثور وعسلان وغيرهم له بريق لامع ووقع خاص واذانٌ صاغية وسعادة لا توصف ، ومازالت مسجلات ناشيونال وبانسونيك واشرطتها الاصلية ترن في أذني حتى اللحظة ، ومازالت أغاني الفنان الكبير علي الانسي والفنان الكبير علي السمة والفنان الكبير محمد حمود الحارثي والفنان الكبير ايوب طارش وعبدالباسط عبسي والاخفش والخضر وابونصار وعبدالكريم علي قاسم والعوامي وعلي حنش وغيرهم تذكرنا بالأيام الخوالي.

ويستمر شريط الذكريات الجميلة في اعادة ما أختزله الزمن الجميل وتدفقاته في حالة الصفاء ، مستعرضاً الكثير ، والحديث عن الفنان الكبير أحمد السنيدار الذي كان يأتي أحياناً الى منزل خالي الشاعر عبدالرحمن محمد قاضي في بستان شارب ، للمقيل وطلب قصيدة يحولها السنيدار الى دُرة من الاغاني الجميلة التي تُنعش القلوب وتُحدث صدى كبير لدى ساكني صنعاء والجمهور اليمني ، كما كان يزوده بعض الشعراء الكبار أو يغترف من مخزون التراث الشعري الاصيل.

ذلك المجلس الذي تحول الى صالون أدبي وثقافي يجمع كبار الشعراء والادباء والفنانين من صنعاء وتعز والحديدة وعدن وإب وحضرموت وحجة ، امثال الدكتور عبدالعزيز المقالح وشاعر اليمن الكبير عبدالله البردوني وعبدالله هاشم الكبسي والحضراني ويحي البشاري واحمد جابر عفيف وعبدالله حمران وادريس احمد حنبلة وقاسم عبدالرب ومحمد مرشد ناجي وغيرهم كما غنا السنيدار من اشهر القصائد الغنائية للشيخ احمد عبدربه العواضي وعباس الديلمي وآخرين .

أتحدث عن ذلك الزمن الجميل زمن الثورة والدولة والجمهورية والقيم والتربية والتعليم والوطنية والمعرفة والثقافة والتكافل والامل والطموح ، رُغم الحرب الباردة والانتماءات الحزبية والذراع الامنية عندما كانت الوطنية والعمل والتنمية والفكر هي دينامو الحياة.

ولاننا عشنا في الزمن الجميل بكل بساطة وترعرعنا في صنعاء التاريخ التي فتحت أبوابها للكبير والصغير والغني والفقير ، نزلنا في مساكنها وشربنا من ماءها وأكلنا من خيرها وتربينا في عزها ونهلنا من علومها ومساجدها ومدارسها وجامعاتها وتأثرنا بلهجتها وبساطة وطيبة أهلها بعد ان أتينا من الريف اليمني وحط بناء القدر في اجمل مدينة مسالمة كانت قد قطعت شوطاً من المدنية بسواعد كل اليمنيين ، وصار الجميع أهلها.

لقد أسعد السنيدار منازل ومجالس ومقايل وافراح اليمنيين واحتفالاتهم الوطنية ، وتحولت أسواق صنعاء القديمة ودكاكينها التجارية مذياع تُردد بعد الفجر النشيد الوطني والاستماع الى القرآن الكريمة بتلاوة القريطي وعامر وبرنامج فتاوى والاخبار السياسية والاستماع الى باقة من اغاني السنيدار وغيره من الفنانين عبر اذاعة صنعاء أو مسجلاتهم الخاصة التي أدخلت البهجة والانس والاريحية والمحبة الى قلوب الكثير من الناس في كل بيت بالحانة وتغريدا ته الجميلة وصوته العذب وكلمات كبار الشعراء والادباء الذين غاصوا في بحار الحرف ودرر الكلمات ومكنونات القصيدة التي حركت مشاعر المستمع ودغدغت أحاسيس المتذوق وقلوب المحبين.

ستظل أغاني السنيدار تراثاً فنياً وتاريخياً للانسانية تُعبر عن مرحلة من الرخاء والراحة والمدنية والفكر الخلاق رُغم البساطة وشظف العيش ، سيظل الابداع والخيال والحب والغزل واللحن الجميل قالباً خاصاً للفنان احمد السنيدار الذي لم نجد طيلة 60 عاماً فناناً برز في فن الغناء الصنعاني الاصيل كمثل السنيدار ، وما أغاني أراك عصي الدمع ، والزهور ، وياطبيب الهوى ، وياجانيات العناقيد ، ان عذلت المولع بالملاح ، أخضر بمن صاغك قمر مصور ، يابايع القمري ، انا من ناظري ، أشتي حبيب القلب وبخلت بالوصل ، وغانية ، متى ياكرام الحي ، ياريم صنعاء ، رن الجرس ، يارب بالخمس نتوسل ، هو الحبيب ، ليت والله والايام ثواني ، مسرع نسيني ، ياحمام نوحي معي ، إلا شاهد عيان على ذلك الزمن الجميل.

أخيراً .. دُمت بإلف خير فنانا القدير والرائع احمد السنيدار مع تمنياتنا لك والاسرة الكريمة بالصحة والعافية وأن يُحقق الله تعالى امانيكم وحُسن الختام .

shawish22@gmailcom

حول الموقع

سام برس