بقلم/ غسان مراد
التمظهر في الإعلام آفة معرفيّة... التقنيّات وظهور خبراء الصدفة والترند!
هذا محلل استراتيجي! وذاك خبير علمي! وهؤلاء محللون في السياسة! وأولئك خبراء في الذكاء الاصطناعي! وتلك محاضِرة في تطبيقاته وأُخرى مشرفة أكاديمية على رسائل جامعية في الـ"إيه آي" (AI)!... هي عناوين تفاجئنا بها محطات التلفزيون والإذاعات وبعض المواقع الإعلامية وبعض الندوات... وفي كل مرة نتساءل، أين تُدرّس هذا المهارات ليصبح الفرد خبيراً ومحللاً... أم هي الفوضى المستشرية والانتفاخ الرقمي لدرجة التورم وانعدام المعايير التي قد تؤدّي الى انتحال وتلبّس صفات في غير موضعها؟

نعلم جيداً أن جُلّ هؤلاء الخبراء لا يمتلكون تخصصاً لاكتساب هذه المعارف، ولم يقوموا بدراسات ولا بأبحاث تسمح لهم باكتساب المعرفة اللازمة للتحليل. في السياسة والتحليل، يمكن للّغو أن يُنشر دون حسيب أو رقيب! طبعاً خارج نطاق التأثير المسيء والخطير بكل أشكاله الذي من الممكن أن يحدث تبدلات في الفهم والتأويل...

ما أثيره هنا لا يتعلق بالسياسة، بل بالمجالات العلمية وتحديداً بمنتحلي صفة "الخبراء في الذكاء الاصطناعي"، وهو مجال لا يمكن "الهرطقة" فيه ببعض العموميات. فهذا لا يؤدي إلى نتيجة يُرتكز عليها لإعطاء المتتبع المعلومات اللازمة التي تتيح له اكتساب المعرفة وتلمّس المخاطر والفوائد الناجمة عن أي تطور علمي، خاصة برمجيات الذكاء الاصطناعي؛ طبعاً إذا ما كان الهدف من الإعلام على أنواعه المساهمة في تحذير الناس وتثقيفهم، لا أن "يسُوق" الناس إلى الجهل!

خوارزميات التعلم الآلي، والتعلم العميق، والتزيف العميق وغيرها...، مصطلحات علمية تفيد في بناء تطبيقات الذكاء الاصطناعي تُردّد دون إدراك لأبعادها المعرفية ومن دون شرح للآليّات التي تعمل فيها. مصطلحات نحن نعلم والخبراء المزعومون أيضاً يعلمون أنهم لا يعرفونها ولا يعرفون معانيها، ويعرفون أن المستمع يعلم ذلك (هي حفلة فولكلورية من التكاذب). فكثرة الحديث عن الخوارزميات من دون التماس جوهرها تؤدّي إلى اللبس المفاهيمي، وعدم فهم ما يحصل حالياً. هؤلاء يكتبون المعرفة على "الأطلال"، لا كما من المفترض بكل "خبير"! ففي العديد من المقابلات حول أثر الذكاء الاصطناعي على سوق العمل والثقافة والإعلام والسياسة والمجتمع واللغة...

يُبادرنا بعض "الخبراء" بكلام عام وتكرار بعض ما يقال في الصحف، التي بدورها ترجمت آلياً (باستخدام الذكاء الاصطناعي!) بعض الأخبار والمقابلات من دون الدخول في عمق الموضوع، ما قد يؤدي إلى البقاء على "سطح المعنى". وبذلك تضيع بوصلة المعرفة. إن من يقول إن الذكاء الاصطناعي يغيّر في السياسة، أو يؤثر على الإعلام، عليه أن يفصل كيف يجري هذا التغيير لكي يدرك المتتبع هذا التغيير. ما يحصل يشبه كمن يقول لنا: "الليل ليلٌ والنهار نهار والأرض فيها الماءُ والأشجارُ".
فالعلوم التطبيقية بحاجة إلى شواهد لكي يفهمها المتتبّع؛ الكلمات العامة تبقى عامة و"يتبخر" معناها، لأن الدماغ البشري تُنشط خلاياه وتترسّخ الأفكار في داخله من خلال فهم التفاصيل وليس بالعموميات. التفاصيل في العلوم تشتمل أبواباً واسعةً من المعرفة المنظمة في هياكل بنوية وليس خبط عشواء...

فهل من يتحمّل مسؤولية ذلك؟

أولاً، لم يقم الإعلام سابقاً بدوره فعلياً في تبسيط العلوم عموماً والتقنية خصوصاً التي تُعتبر من أهم مستلزمات التطوّر في المجتمعات وثقافته للوصول إلى إرساء ثقافة التكنولوجيا. فالإعلام الكلاسيكي كان يعتبر، والبعض ما زال يعتبر، أن الثقافة هي فقط الأدب والشعر. بالنسبة لهذا الإعلام لم تشكل العلوم كالرياضيات والفيزياء والبيولوجيا وغيرها ثقافة. هذه إحدى هفوات الإعلام، الذي انتبه حالياً، بعد أن سحبت التقنيات البساط من تحته في احتكاره النشر، أن عليه الاهتمام بمثل هذه المواضيع بالرغم من أن معالجته للموضوع ما زالت خجولة.

ثانياً، على الإعلام المرئي والمسموع خاصةً، أن يتأكد فعلياً من أن من يستضيفه للحديث في مجال معيّن هو فعلاً خبير كما يدّعي في الذكاء الاصطناعي أو في غيره! فلا يكفي "حشر" كلمة الذكاء الاصطناعي في العنوان لنصبح خبراء في الموضوع، ولا تكفي المعارف والعلاقات العامة بين العاملين في المؤسسات الإعلامية ومنتحلي صفة الخبرة، لتبسيط النصّ العلمي وعرضه على المتتبع. فخلال ملاحظة المقابلات المتعددة عن الموضوع، لا يكتسب المشاهد أي معرفة ولا تزيد معلوماته ولو بفكرة نيّرة، حتى من الممكن أن بعض الإسقاطات التي تُرمى يميناً وشمالاً تشوّه المشاهدين غير المحترسين... والسبب يرجع إلى أن القائل بحد ذاته لا يملك المعرفة، إذ هناك العديد من المصطلحات والمفاهيم والأفكار التي من المفترض بمن يتلفظ بها أن يكون قد "تشرّبها".
كما لا يكفي عرض المعلومات بل يجب إقناع المتلقي... والإقناع يأتي من فهم القائل للأفكار أولاً. فنقل المعرفة - إن كان هو الهدف من البرانامج الإعلامية كذلك "وليس تعبئة الهواء" - يرتكز على فهمنا لها.

ثالثاً، عدم إلمام المُحاور بالمجال. للأسف الشديد، ففي عالمنا العربي لا يوجد العديد من الإعلاميين المتخصصين في الإعلام العلمي والتقني خاصة... عدم فهم المُحاور للموضوع يُضيّع الموضوع وتبقى المعرفة مسطحة، فيها تكرار لما يقال، مقتصرةً على قراءة الأسئلة بدل الحوار الذي من المفترض به أن يرتكز على التفاعل.

رابعاً، تقع المسؤولية على الاستخدام العشوائي للتقنيّات وخاصة شبكات التواصل، وهذا أدّى إلى بروز ثقافة التمظهر الرقمي بغضّ النظر عن الواقع، ما دفع بالبعض إلى انتحال صفات متخصّصين لمجالات على "الموضة" (Trends). والأكثرية تطبّق مقولة (هل رأيتني) (m’a tu vu?)، أو بالدارج: "شوفوني يا ناس" في إعادة صياغة لما قاله عالم الاجتماع بيار بورديو.

التحول الرقمي ليس خطاباً وكلمات خاوية، بل هو معرفة مقرونة بفعل وممارسة. والانتقال إلى مجتمع المعرفة بحاجة إلى أكثر من كلمات، ("كلمات... ليست كالكلمات" كما يقول نزار قباني)، بل إلى فهم أن الثقافة هي طريقة شاملة في الحياة؛ وهذا يتطلب أن تُدرّس التقنيات كعلم يؤدّي إلى اكتساب المعرفة لكي ننتقل إلى مجتمعات قابلة للتحول الرقمي كما من المفترض أن يكون؛ وبحاجة ماسة إلى إعلام يُمارس وظيفته كما يجب. فلا يمكن إنتاج المعرفة بتكرار بعض الكلمات المفتاحية التي سمعناها في مجال ما، ولا يمكن من خلال ترداد المصطلحات أن نصبح خبراء. المعرفة تراكمية. المعرفة تواضع. المعرفة ابتكار وليست تكراراً وانبهاراً.

نقلاً عن النهار

حول الموقع

سام برس