سام برس / متابعات
جميل مفرِّح

حين يتحول المثقف إلى سلعة أو آلة صناعية أو خدمية, لا شك أنه في تلك الحالة أو اللحظة يعلن عن تخليه عن صفة المثقف الفعلي, ويتحوَّلُ من كائن فاعلٍ متفاعل إلى شيء, وهذا الشيء قد يكون قطعة أثاث, وقطعة الأثاث تلك ليس بيدها حتى اختيار المكان الذي توضع فيه.. وبالتالي فإنه لا يمكن أن ننتظر منها أن تحدث إضافة سواء أكانت تلك الإضافة نفعية أو جمالية.. وبالتالي أيضاً فإنها قد تنفع وقد تؤذي خارج إرادتها وفاعليتها أو بالأصح قرارها الحر..
* والمثقف حين يختار أو يرتضي لنفسه أن يكون قطعة الأثاث تلك, لا يمكن أن تنتظر منه أن يغير واقعاً أو يؤثِّر في مسار الحياة من حوله.. هذا النوع من المثقفين يكتفي بالوصف أعني وصفه بـ(المُثقَّف) كإنجاز وحيد في واقعه وحياته التي سرعان ما تتحول إلى هامشية وعابرة.. وبالتالي فإن المثقف من هذا الصنف سرعان ما يموت حين يتوقف عن التنفس أو يتوقف قلبه عن الأداء, يموت إلى الأبد دون رجعة أو أثر يحفظ له, وإذا ما حفظ له أثر فلن يتعدى الذكر اللفظي الخاوي والفارغ من أي معنى أو قيمة..
* في اعتقادي أن هذه الشريحة شريحة المثقفين هي من أكثر البشر اعتزازاً بالأنا والحضور وإثبات الذات, اعتماداً على ما تحظى به من تقدير واحترام اعتباري من قبل العامة والخاصة أولاً, ثم من خلال مستوى تفكيرها ونظرتها إلى الحياة والموجودات من حولها.. ومن هنا فإن ادعاء إمكانية إنتاجها أو صناعتها يغدو ضربا من الخيال والتخيُّل، أياً كانت تلك القوة التي تدعي ذلك, سواء أكانت نظاماً سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً.. لا يمكن لأحد من هؤلاء أو أولئك ادعاء صناعة المثقف أياً كانت إمكاناته وقدراته..
* غير أن ذلك الادعاء وهذا الهاجس السلبي بدا يتجسد في مجتمعات إنسانية مختلفة، وعلى رأسها المجتمع العربي.. وذلك حين ارتهن المثقف لتصرُّف ولي الأمر الآمر والناهي, وصار أداةً من أدوات ملكه وشيئاً من أشيائه العادية جداً, وليس يمتلك من نفسه حتى التفكير والتعبير الحرين, واللذين يلازمان صفة المثقف في أي مجتمع من المجتمعات وأي زمن.. قد يكون هذا المثقَّف منساقاً لرغبات سواه انسياقاً جبرياً فعلاً ذلك واردٌ, ولكن تلك الجبرية لم تنشأ من تلقاء نفسها, وإنما من رضوخه المطلق لسواه, أياً كان ذلك السوى..
* في الأخير لا بد من التأكيد على أن المثقف هو من يصنع نفسه بنفسه في المنظومة المحيطة به، وحين يتحقق ذلك فإننا لا بد أن نجد فيه الكائن الفاعل والمؤثر والمملي لا المتلقي.. وبالتالي فإنه يفرض حضوره ومكانته بقوة استقلاله بنفسه وبرأيه بمطلق الحرية والاختيارية, ويتحوَّل إلى مركز لكل ما ومَن مِن حوله.. ويكتسب من ذلك قوَّته حتى في حماية نفسه من أي تأثير أو اعتداء قادم من خارج فكره واعتقاداته التي يؤمن بها.. نعم حين يكون المثقف حقيقياً وصادقاً مع نفسه بهذه الكيفية يغدو قوةً تتجاوز قوة أي سلطانٍ أو سلطة.. ويستطيع حينها أن ينال صفة المثقف.

حول الموقع

سام برس