سام برس / متابعات
غيّب الموت الملحن العراقي الكبير طالب القره غولّي، صاحب الالحان الشجية، عن عمر يناهز الـ 74 عاماً في مستشفى بمدينته الناصرية (جنوب العراق) بعد ظهر الخميس أثناء تلقيه العلاج بسبب مضاعفات مرضية، منها مرض السكري الذي تسبب قبل نحو سنتين ببتر ساقه اليمنى. بهذا فقد العراق والوسط الفني العراقي أعظم الملحنين المبدعين وعمودا من اعمدة اللحن العراقي الاصيل.
ولد الفنان طالب القره غولي في قرية النصر الواقعة على ضفاف الفرات في محافظة الناصرية جنوب العراق التي عرفت بطبيعتها الخلابة واراضيها الزراعية الشاسعة، حيث المياه تحتل اجزاءا كبيرة من مساحتها، والمناظر الخلابة التي أثرت فيما بعد في انتاجاته الفنية النوعية.
وقد نشا القره غولي متسلسلا في دراسته حتى تخرج واصبح معلما في نفس المحافظة وفي هذا المجال تعرف طالب القره غولي على شاعر اصبح فيما بعد اساس وبصمة الحانه التي تغنى بها كبار المطربين، انه الشاعر الغنائي الراحل زامل سعيد فتاح وكذلك الشاعر عريان سيد خلف بالاضافة الى فنانين وشعراء اخرين.
ثم بعد ذلك انتقل القره غولي الى العاصمة العراقية بغداد ومن هناك كانت انطلاقته الحقيقية في ان يبرز كملحن فريد له الاثر البالغ في تجديد الاغنية العراقية ونقلها من ايقاعات لحنية تقليدية كانت سائدة انذاك الى الحان تتميز بطابع التجديد. الى جانب ذلك تميز القره غولي في اختيار المفردات الشعرية الغنية المعاني والتي تجمع بين السلاسة والتعقيد في ذات الوقت، كما هو الحال في اختياره الدقيق لقصائد مظفر النواب الشعبية، التي تحاكي واقع المرحلة الاجتماعية والسياسية العراقية انذاك.
غاب الفنان الكبير الحاضر بفنه بعد رحلة فنية طويلة امتدت لعقود تاركا وراءه بصمة بارزة على فن الاغنية العراقية تزخر بارقى الالحان واعذبها. ما يميز القره غولّي هو انه استطاع ان يخرج الاغنية العراقية من رتابتها اللحنية التقليدية من خلال التنقلات المختلفة في الحانه وتعامله مع مختلف الاصوات الطربية، عراقية كانت ام عربية، حيث انه لحن لكبار المطربين العرب امثال وردة الجزائرية وقد وضف لحنه توظيفا ذكيا يتناغم مع صوت المطربة الراحلة. وفي مطلع السبعينيات استطاع وبجراة ان ينهض بالاغنية العراقية نحو التجديد متناسيا كل الانتقادات التي وجهت اليه في انتقالاته الايقاعية الشجية والمفرحة بذات الوقت وبخاصة في اغنية "البنفسج" من شعر مظفر النواب التي غناها المطرب ياس خضر.
واستطاع ايضا ان يعزف على وتر العشق الاصيل من خلال انتهاج نهج لحن جديد بالنسبة الى المقاطع الغنائية المتكررة من خلال اغنية "حجايات البريسم" للمطرب فاضل عواد حيث تظهر الاغنية تأثره الواضح باللحن المصري في كوبليهات بليغ حمدي في الاسترسال باللحن والتصاعد بالنغم الى الذروة ثم الرجوع الى نفس المقام ليؤدي بذلك اروع الاخلاص لبداية اللحن ويثبت "الحنين لاول منزل" وكأنه يحن الى مدينته الام الناصرية التي ترعرع فيها وكتب له القدر ان يعود اليها اخيرا بعد طول غربة ليغادر الدنيا منها وينتقل الى بارئه.
كان يشعر بالحزن أنه لم يعد يملك القدرة على المشي بتلك الرجل البديلة الصناعية التي تتأرجح ولم يستطع الاعتياد عليها فكانت تهرب منه، وقد حدث ذلك في فندق شيراتون ببغداد حينما كان ضيفًا على احتفالية بغداد عاصمة للثقافة العربية قبل نحو شهرين، حينما قال شاكيا: "كنت امشي واذا بي أجد ساقي المبتورة تطير في الهواء والرجل البديلة تركتها خلفي، وسارع بعض الاصدقاء الى نقلي الى المستشفى".
طالب القره غولي أول من أدخل الأغنية الطويلة في الغناء العراقي، وقال عن ذلك: "الأغنية الطويلة التي قدمتها لم تكن تقليداً للأغنية المصرية، ولكنني كنت ألحن قصائد فيها معانٍ عميقة وقصص تحتاج إلى إعطائها حقها في التلحين للتعبير عنها، أنا لا ألحن الكلمات بل ألحن المعنى الموجود داخل الكلمة"، ولحن لجميع مطربي العراق الذين جايلوه أو عاشوا زمنه، والعديد من المطربين العرب.
ونقل موقع "ايلاف" في تقرير نشره بمناسبة رحيل القره غولي عن الفنان قوله: "إن الفترة التي أفتخر بها وأعتز بها اعتزازي بكل مسيرتي الفنية هي فترة الحرب العراقية الإيرانية التي لحنت فيها أغاني لا تتكرر، إنها أغانٍ وليست أناشيد لأني لحنتها كأغانٍ عاطفية، لذلك وصلت إلى عقل وقلب المواطن العراقي. أما عمّن تبرأ مما غنى أو لحن خلال الحرب فهذا شأنه. أنا لا أتبرأ من تاريخي وإبداعي".
يبقى القره غولي بعبقريته وابداعه صرحا فنيا خالدا في اللحن العراقي والاغنية العراقية وستظل الحانه علامة مميزة في الاغنية العربيه حيث تجاوز القطرية الى العربية باعتراف الملحنين العرب اذ يكّن هؤلاء له كل الاحترام والاعجاب بحرفيته. رحل القره غولي وقد ترك الحانا خالدة للفن العراقي، اذ لحن لعمالقة الغناء العراقي امثال فاضل عواد وحسين نعمة وياس خضر وفواد سالم وسعدون جابر وغيرهم، وللفنانين العرب وردة الجزائرية وسعاد محمد ونصري شمس الدين وسميرة سعيد وسوزان عطية.

حول الموقع

سام برس