سام برس
قال كيرت (مرشد سياحي ألماني) لمجموعة من السياح الأميركيين: «نعم، يأتي إلى هنا بعض السياح الإيطاليين. نعرفهم بلغتهم، وبشعرهم الأسود، بالمقارنة مع شعر أغلبية الألمان والألمانيات الأشقر. كما ترون في تلك المجموعة هناك». وكأن هذا من مفارقات التاريخ.
ها هم الإيطاليون يأتون إلى هنا لزيارة موقع واحدة من أهم الحروب في تاريخ أوروبا: معركة «تيوتونيك فورست» أو «تيوتبيرغ فورست» (غابة تيوتون).
في السنة التاسعة بعد ميلاد المسيح، هزم التيوتون (أجداد الألمان) الرومان (أجداد الإيطاليين) هزيمة نكراء، أثبتت، ربما حتى الوقت الحاضر، تفوق ألمانيا على إيطاليا، وربما على كل أوروبا.
تقع غابة تيوتون وسط جبال منخفضة في مقاطعة ساكسوني الألمانية. وقبل أن يرى الزائر أرض المعركة التاريخية، يرى تمثالا كبيرا لقائد القوات الألمانية، هيرمان (اسمه باللغة الرومانية: ارمينياس).
* من هم التيوتون؟
* منذ بداية الإمبراطورية الرومانية (القرن الأول قبل الميلاد)، لم تخفِ احتقارها للقبائل الألمانية «البربرية» (الهمجية) إلى الشمال منها. ولم تخفِ استعلاءها عليهم. وهزمتهم، وغزتهم مرات كثيرة. لكن، لم يكن الألمان أقل فخرا بأنفسهم. وهكذا، لـ20 قرنا تقريبا، ظل الجانبان يغزوان بعضهما بعضا.
لأن القبائل الألمانية لم تكن تعرف القراءة والكتابة، في وقت معركة «غابة تيوتون»، كتب عنها، وعنهم، كتاب إيطاليون، منهم بطليموس.
كتب عن قبيلة «تيوتون»، وقال إن أصلها من شمال أوروبا، من دول إسكندنافيا الحالية (حتى اليوم، يوجد تشابه كبير بين الألمان والإسكندنافيين).
شمل اسم «تيوتون»، في وقت لاحق، كل القبائل الألمانية. ثم تحول إلى «جيرمان» (ألمان). وأصل كلمة «جيرمان» هي كلمة «جيرمانيا» التي أطلقتها الإمبراطورية الرومانية على الأراضي شمال نهر الراين.
* انتحار الألمانيات
* قبل معركة «غابة تيوتون»، كانت هناك معارك أخرى. منها معركة «انتحار الألمانيات» (القرن الأول قبل الميلاد). انتحرت، معا، أكثر من ثلاثمائة امرأة ألمانية متزوجة، بعد أن أسرهن الإيطاليون. خلال الليل، قتلن أطفالهن، ثم خنقن بعضهن، حتى متن كلهن.
وذكّر هيرمان، قائد الألمان في معركة «غابة تيوتون» (القرن الأول الميلادي) جنوده بهؤلاء الألمانيات. وقال لهم: «انتحرت نساؤكم حتى لا ينهزمن. وحري بكم أن تقتلوا حتى لا تنهزموا».
بعد انتصار الألمان في المعركة، وبسبب عداوات ألفي سنة تقريبا بين الجانبين، ظل الألمان يجهلون تفاصيل المعركة لأنهم لم يسجلوها. ورفض الإيطاليون إعطاءهم معلوماتهم عن معركة انهزم الإيطاليون فيها.
فقط بعد أن توحد الألمان تحت الإمبراطورية البروسية، بقيادة بزمارك (القرن الـ19)، بدأوا يحفرون المكان. وعثروا على آثار، منها نقود من عهد الإمبراطور أغسطس (أول الأباطرة الرومان، وابن أخ يوليوس قيصر) كان يحملها جنوده. ونحت الألمان تمثال قائدهم هيرمان، ووضعوه في مكان المعركة.
وهكذا، وقفت مجموعة السياح الإيطاليين تحت التمثال العملاق، الذي يرتفع في أعلى مائة سلم تقريبا. ويرفع سيفا عاليا، وهو يتجه نحو الجنوب (نحو إيطاليا). ومكتوب على السيف باللغة الألمانية: «وحدة الألمان هي قوتي، وقوتي هي قوة الألمان».
* برلين
* حسب خرائط ومعلومات متحف «دويتشهيستورتش» (تاريخ ألمانيا)، في هذه الظروف، تأسست برلين (القرن الـ13) على نهر «سبري»، في قلب سهول أوروبا الخضراء الغنية، التي تمتد من روسيا شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا. اسم «برلين» هو «مستنقعات»، هذا النهر.
شهدت برلين مزيدا من الحروب بين الألمان، في جانب، والإيطاليين والفرنسيين في الجانب الآخر. وكان السبب الرئيس هو أن الألمان لم يتحمسوا أبدا للإمبراطورية الرومانية المقدسة التي كان يحكمها تحالف رجال الدين الإيطاليين والفرنسيين. كان ذلك وقت صكوك الغفران التي أصدرها رجال الدين بقيادة بابا الفاتيكان (ضمان الجنة للذي يدفع).
لهذا، لم يكن غريبا ظهور قس في ألمانيا (القرن الـ16) قاد حركة «ريفورميشن» (الإصلاح الديني الذي فصل كنيسة البروتستانت عن كنيسة الكاثوليك التي رئاستها في روما).
جنوب برلين، تقع مدينة ايلسبن حيث ولد لوثر (تسمى أيضا «لوثر ستاندت»، مدينة لوثر). وطبعا، أهم معلم فيها هو المنزل الذي ولد فيه لوثر، وتوفي فيه. غير أن لوثر بدأ حركته عندما كان قسا في مدينة وتينبيرغ القريبة (المنطقة نفسها التي فيها معركة «غابة تيوتون»).
وتشتهر المدينة ليس فقط لأنها مكان ميلاده ووفاته، ولكن، أيضا، لأنه ألقى فيها آخر خطبة دينية. ولأن الخطبة تركزت على هجوم عنيف على اليهود، وكانت كثير من خطبه تهاجم اليهود. ويوضح هذا أن عداء الألمان لليهود كان لأكثر من 400 سنة قبل هتلر (القرن الـ20).
كما سجل المتحف، قال لوثر في آخر خطبته: «نريدهم أن يؤمنوا بدين عيسى. لكنهم، حتى يؤمنوا، هم عدونا الأول. لو استطاعوا لقتلونا كلنا. لهذا، لا مكان لهم وسطنا، حتى يتوبوا عن الربا، وعن الخداع، وعن التدليس».
* «سيري» و«أودر»
* وفي خليط من دين ووطنية، صار الألمان حماة مذهب البروتستانت في كل أوروبا. وربما، أيضا، نكاية في الإيطاليين والفرنسيين الذين استمروا على مذهب الكاثوليك.
وكانت هناك «حرب الـ30 سنة» (القرن الـ17) بين الجانبين، البروتستانت والكاثوليك، حول من يسيطر على أوروبا.
وتدمرت برلين أكثر من مرة. وبعد مرة من المرات، حفر الألمان قناة ربطت بين نهر «سبري» (ينبع في بولندا، ويصب في بحر الشمال) ونهر «أودر» (ينبع في جمهورية التشيك، ويصب في بحر البلطيق).
وقال كونراد، المرافق السياحي لمجموعة من السياح الأميركيين، في فخر واضح: «لم تصبح برلين مركزا لوسط أوروبا بالصدفة. حفرنا قنوات، وربطنا أنهارا، وبنينا كباري، ورصفنا طرقا، ونشرنا حضارتنا»، وأضاف، نكاية في السياح الأميركيين: «تأسست برلين قبل 500 سنة من تأسيس واشنطن».
* جزيرة المتاحف
* جزيرة المتاحف، في قلب برلين، على نهر «سبري»، فيها أكبر مجموعة من المتاحف في العالم، إن لم تكن أقدمها.. فهنا «نيكولايكيرش» (كنيسة نيكولاي)، أقدم كنيسة في برلين (القرن الـ13). وهنا «دوتشهيستورش» (متحف تاريخ ألمانيا). وهنا متاحف فنية فيها لوحات مشهورة، مثل التي رسمها بابلو بيكاسو.
وهنا (قبة برلين)، بقايا الكنيسة التي بناها ملوك عائلة هولهنزولن (القرن الـ18). ودفنوا تحتها ملوكهم. وزينوا قبورهم بتماثيل غاية في الجمال والفن. ورسموا على الجدران والنوافذ صورا جميلة ملونة لصعود عيسى المسيح إلى السماء. وفيها واحد من أكبر وأقدم الأرغونات في العالم.
وقال كونراد، المرشد السياحي الألماني: «حسب المخطوطات الأثرية، كان عزف الأورغان يهز المكان كل يوم أحد».
* متحف برغامون
* في جزيرة المتاحف في برلين، مجموعة متاحف عن حضارات أجنبية، تحت اسم «بيرغامونميوزيم» (متحف برغامون).
كانت برغامون عاصمة الحضارة اليونانية القديمة في تركيا الحالية (القرن الثالث قبل الميلاد). وحتى اليوم، تظل منطقة الأناضول في تركيا (حيث بقايا الحضارات اليونانية، والرومانية الوثنية، والرومانية المسيحية) ذات أهمية خاصة وسط السياح الغربيين المسيحيين.
حفر خبراء الآثار الألمان المنطقة، ونقلوا معبد «برغامون» إلى برلين (القرن الـ19). وفي المتحف «بوابة عشتار»، إلهة الحب والحرب والجنس في حضارة بابل (بدأها الملك حمورابي في القرن الـ18 قبل الميلاد، وسقطت في القرن الثالث قبل الميلاد، على أيدي الإمبراطورية الرومانية).
وفي معبد «عشتار» في برلين، تكثر رسومات وتماثيل الأسود. ويعلو كوكب «فيناس» (الزهرة)، الذي يعتقد أن أصل اسمه «عشتار».
وكما قال المرشد السياحي الألماني، حتى الوقت الحاضر، يستمر خبراء آثار ألمان في البحث عن بقايا بابل في العراق. وأيضا، عن بقايا الإمبراطورية الرومانية في تركيا.
* المتحف الإسلامي
* وفي جزيرة المتاحف، أيضا، «إسلاميشكونسيت» (متحف التراث الإسلامي). وهنا «بوابة المشتي»، إشارة إلى جزء من القصر الشتوي للخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (القرن الـ8). وأهداه السلطان التركي عبد الحميد إلى القيصر الألماني ولهايم (القرن الـ19).
وسط متاحف تكثر فيها فنون الحضارة الغربية، وخاصة التماثيل العارية، أو شبه العارية، يبرز الفن الإسلامي. ويشير المتحف إلى هذه الحقيقة. إلى الآيات القرآنية، والخطوط العربية، ورسوم الحيوانات، والنباتات، والزهور، والأشكال الهندسية.
بوابة «براندنبيرغ» توجد في جانب آخر في برلين بوابة «براندنبيرغ» المشهورة، التي، هي الأخرى، تصور تاريخ انتصارات وهزائم الألمان خلال الـ300 سنة الأخيرة.
بنى البوابة ملوك عائلة براندنبيرغ (القرن الـ18) كمدخل رئيس لبرلين التي كانت تحيط بها الأسوار. بنوها على خطى الحضارة اليونانية القديمة. وقلدوا أعمدة معبد «اكروبول» في أثينا. وفي أعلاها عربة «كوادريغا» التي تجرها أربعة خيول. وتقودها «فكتوري» (إله النصر) وهي تحمل غصن شجرة زيتون، إشارة إلى خليط من القوة والسلام. وأصل التمثال هو الآلهة اليوناني القديم أبوللو، وهو يقود العربة في السماوات العلا.
في وقت لاحق، تبنت الإمبراطورية الرومانية رمز العربة. وفي الوقت الحاضر، توجد أمثلة لها في لندن، وموسكو، وباريس، وبرلين، وغيرها.
ومن مفارقات التاريخ أن الألمان والفرنسيين تنافسوا في نحت تمثال عربة الخيول، إشارة إلى هزيمة كل جانب للآخر.
أولا، نحت الألمان تمثالهم (القرن الـ18). ثم نحت الفرنسيون تمثالهم (القرن الـ19) إشارة إلى انتصارات نابليون على الألمان وغيرهم. وفي سنة 1806، عندما دخل نابليون برلين، مر، في فخر وانتصار، تحت بوابة «براندنبيرغ». وأمر بنقل تمثال عربة الخيول إلى باريس.
لكن، لم يدم احتلال الفرنسيين لألمانيا طويلا. ودارت دورة التاريخ. وقاد الجنرال الألماني فون بوفول القوات الألمانية التي هزمت نابليون، ودخلت باريس سنة 1814. وسار الجنرال، في فخر وانتصار، تحت «ارش دي تروفيه» (بوابة النصر) في باريس. وأمر بإعادة تمثال عربة الخيول إلى برلين.
هذه المرة، وضع الألمان على العربة تمثال النسر الألماني، وصليبا عملاقا من الحديد المقوى. ومن مفارقات التاريخ، انه، بعد مائة وخمسين سنة من هزيمة الألمان أمام الفرنسيين (القرن الـ17)، ومن هزيمة الفرنسيين أمام الألمان (القرن الـ19)، هزم الألمان الفرنسيين بقيادة هتلر (القرن الـ20). ولم ينس هتلر أن يدخل باريس، ويسير، في فخر وانتصار، تحت بوابة النصر.
ثم دار التاريخ دورته، وانهزم هتلر. هذه المرة أمام تحالف بريطانيا وأميركا وفرنسا وروسيا. وهذه المرة، دخل الروس برلين بقيادة المارشال زوكوف. ولم ينسَ أن يسير، في فخر وانتصار، تحت بوابة «براندنبيرغ». وصارت البوابة رمز تقسيم برلين، وتقسيم ألمانيا، حتى توحدت ألمانيا، وتوحدت برلين (نهاية القرن الـ20).

نقلا عن الشرق الاوسط

حول الموقع

سام برس