عباس الديلمي
ما خلفية الامتيازات التي مُنحت للقبيلة في اليمن، وأين تكمن جذورها؟! سؤال تلقّيته، فقلت سأجتهد رأيي، بما لا أقول أعتقده، بل هو ما أرجحه وهو:
بما أن البدء للكلمة دائماً - ابتداء بالخليقة كما ورد في الإنجيل المقدس؛ وانتهاء بالدمار والموت كما ورد في تراثنا الشعري، بأن الحرب أولها كلام - فليس من باب النكتة حين نعيد جذور الامتيازات القبلية في اليمن إلى النقيب علي بن علي الجائفي، رئيس الحرس الملكي - في أربعينيات القرن الماضي- أما خلفيتها وحاضنتها فمجموعة من الهزائم ومشاعر الإحباط واليأس الممزوج بالخوف.
بشيء من الشماتة قال النقيب الجائفي: «صدّقتم الدستوريين والأحزاب ونسيتم حاشد وبكيل وهم الذين يقيمون الدول ويسقطونها في اليمن على مدى التاريخ، أو أنكم لم تقرأوه..؟!
أما متى، ولمن؟ ففي مارس 1948م عند استلامه في سجن تعز القاضي عبدالرحمن الإرياني - السجين المنقول من سجن إب - رئيس المجلس الجمهوري لاحقاً.
كلمات طائشة صدرت من النقيب الجائفي؛ ولكنها صادفت هوى ووقعاً في نفسية واقعة تحت تأثير وطأة الظروف القاسية، وهي النفسية التي وصفها علماء النفس بقولهم: إن المرء حين يقع تحت طائلة اليأس والظروف القاسية يؤمن - في بحثه عن الحلول - حتى بالخرافة.. وما ليس منطقياً..!!.
حدث هذا بعد فشل حركة أو انقلاب 1948م وتمكُّن الإمام أحمد من كل من له صلة بالأمر - إما بقطع الرؤوس أو السجن أو التشريد وهدم المنازل، وظلت الكلمات التي همس بها النقيب الجائفي في أذن القاضي عبدالرحمن الإرياني في حالة كمون لديه - ولعلها كانت تقفز إلى خاطره من وقت إلى آخر لفترة تقارب السبع سنوات، وكل ما استرجعت الذاكرة بطش القبائل اليمنية بحركة 48م وإمامها ورجالاتها نصرةً لولي العهد أحمد الذي جعل من مقتل والده المُسن مدخلاً للأخذ بثأر الإمام، وانتزاع الأحقية - من إخوته وأعمامه - في خلافة والده، وادعاء الخلافة، مُلقباً نفسه بـ«الناصر» فكان له ما أراد.
وجاء انقلاب العقيد الثلايا وسيف الإسلام عبدالله شقيق الإمام أحمد عام 1955م ومعه عوامل فشله التي استغلها دهاء الإمام العسكري المحترف - كما تدل حروب خاضها - ليفتك بأخيه إمام الانقلاب، وقائده الثلايا وبقية المشاركين فيه، بالأسلوب نفسه الذي جرى بعد إفشال 48 الذي يسمّى مجازاً «الثورة».
وفي أجواء الهزيمة والانتكاسة الجديدة، وشعور المناوئين للإمام أحمد في عرشه الملكي الإمامي بمرارة الكأس التي شربوا منها بعد فشل 48 وعوامل اليأس والإحباط التي نالت كثيرين من طلائع الحركة الوطنية، وجدت كلمات النقيب الجائفي «عن القبيلة والاعتماد عليها» فرصتها المناسبة للخروج من حالة الكمون إلى الظهور، عبر القاضي عبدالرحمن الإرياني الذي لم ينسها منذ لفتت نظره إلى أهمية إشراك القبيلة التي فتكت بـ48م كما كانت السند القوي لوأد انقلاب 55 في مهده، وهذا ما جعل القاضي عبدالرحمن الإرياني يتغلّب على اليأس والهدوء - كما يقول في مذكراته جـ(1) صـ(242)- ويقدم على معاودة العمل الوطني والسياسي في إطار إشراك القبيلة وجرّها بما يغري ويبعث الحماس في نفوس رؤسائها.
وتم الاتجاه - كما تنص المذكرات - نحو رأسي حاشد وبكيل واللقاء بالشيخ سنان أبولحوم والشيخ حميد بن حسين الأحمر في تعز لعمل برنامج وطني يتكوّن من نقاط ثلاث؛ ذُيلت بما يتعلّق بالقبيلة وما يغريها أو يحثها على المشاركة في العمل الوطني وتغيّر الواقع ونظام حكمه، ومما جاء بالوثيقة في إشارتها إلى فشل المحاولات السابقة في 48، 55م أو ما أسُميتا بثورتي الجيش والأحرار (أن أهم أسباب الفشل هو أن الثورتين قد قامتا معتمدتين على شخصيات من تزعموها ووقعتا من وراء ظهر الجماهير اليمنية وبعيداً عن علم وفهم قبائل اليمن وعشائرها التي لاتزال ظروف اليمن الواقعة تضع في أيديها القدرة على إسقاط الحكومات وإقامتها، فكان الفشل لذلك ضرورة حتمية) وعلى ضوء ما سلف قرّر المجتمعون ما يلي:
العمل على نشر الوعي في الوسط القبلي بما للقبائل من حقوق مهدورة، وإثارة روح العزة في نفوسهم، واعتبارهم هم الجماهير اليمنية التي يجب أن تكون وراء كل ثورة، وإقناعهم أن تقوم كل قبيلة بالدور الذي هيأته لها إمكاناتها ومركزها القبلي؛ مع التأكيد على أن لا يغمط حق أحد منهم، وأنهم سينالون حقوقهم التي حُرموا منها في الماضي الحاقد الفاسد، وإيجاد تحالف قبلي، وتحرير قواعد يتعهد فيها المتحالفون بالأيمان المغلظة على أن يكونوا يداً واحدة وعضداً وساعداً وراء الزعماء الذين يريدون الخير والإصلاح لليمن «2».
هذا بالإضافة إلى بنود أخرى منها: «تشكيل مجلس وطني يتحمّل مسؤولية الحكم يختار أعضاءه من الضباط والقبائل والأحرار المخلصين؛ وغير ذلك من البنود التي أرى العودة إلى الوثيقة التي تضمّنتها في مذكرات القاضي عبدالرحمن الإرياني».
واستنباطاً مما سبق، يمكن القول إن محاولة استقطاب رؤوس القبائل بما تمّت الإشارة إليه من امتيازات واعتبارها الجماهير التي يجب أن تكون وراء كل ثورة قد تركت أثرها في نفوس بعض تلك الرؤوس التي تم التواصل معها كما جاء في المذكّرات وظهرت إشارات ذلك من خلال الهَّبة القبلية نحو صنعاء خلال غياب الإمام أحمد للعلاج في إيطاليا عام 1959م باسم مناصرة ابنه وولي عهده محمد البدر لمحاصرة تمرُّد الجيش في تعز الذي امتد إلى صنعاء، وهذا ما دفع الإمام أحمد إلى المسارعة بالعودة.. وبثّه عبر إذاعة صنعاء خطابه الشهير الذي قذف الرعب في قلوب الكثيرين وأولهم حشود القبائل المتواجدة في العاصمة صنعاء - كما يقول القاضي عبدالرحمن في مذكراته - وأنهم ما إن سمعوا الخطاب حتى بلغ بهم الخور مبلغه؛ ولم ينتظروا طلوع الصباح ليفرّوا من أبواب صنعاء التي كانت تُغلق ليلاً أو مع ظهور الخيط الأسود وتفتح مع الخيط الأبيض، بل تقافزوا من على سور صنعاء هرباً نحو قراهم، وهذا ما جعلهم يأسفون - فيما بعد - على ما بدر منهم جرّاء ما أصابهم من الرعب، فعاد بعضهم إلى صنعاء وعقدوا اجتماعاً سرياً حضره القاضيان عبدالله محمد الإرياني وعبدالسلام صبرة، واتفق الحضور على وضع خطتين، أولاهما: اغتيال الإمام أحمد في مدينة السخنة - محافظة الحديدة - وأما الثانية وهي التي عملوا على تنفيذها فهي: العمل على التفاهم بين رجالات حاشد وبكيل لجمع كلمتهم والتعاهد على التمرُّد؛ مبتدئين بطرد الموظفين الحكوميين «3».. إلاّ أن ذلك لم يُجْدِ مع أحمد الإمام والملك العسكري الذي سارع إلى إرسال جيوشه إلى حاشد وخولان والجوف وبرط وغيرها ليأتوه برأس حاشد الشيخ حسين الأحمر وابنه حميد والنقيب «4» عبداللطيف بن قائد، أحد رؤوس بكيل ليودعهم سجن حجة ويعدمهم هناك ويعتقل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، ويتجه النقيب سنان أبولحوم وغيره ممن نجوا من سيف وسجون أحمد إلى عدن (انظر مذكّرات الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر ومذكّرات النقيب سنان أبولحوم عن أحداث عام 1959م)، أما القاضي عبدالرحمن الإرياني فقد أنجاه ذكاؤه كالعادة، ليستمر من رجالات الإمام أحمد وحاشيته.
نأتي إلى القول: إذا ما كانت فكرة الامتيازات القبلية قد أخذت مكانتها لدى الرعيل الأول من الحركة الوطنية - أو فصيل منها - فإنها قد أتت بشيء من أغراضها التي لم يُكتب لها النجاح لاصطدامها بدهاء وجسارة الإمام أحمد، إلاّ أنها لم تمت في نفوس القائلين بها، بل ظلّت في حالة كمون لتظهر بقوة بعد قيام ثورة الـ26 من سبتمبر، لتختفي بعد حركة 13 يونيو، بما يشبه الجينات الوراثية الكامنة، وتبرز في عهد الرئيس السابق علي عبدالله صالح وما بعده، وهذا ما سنتناوله في اللقاء القادم..
_________________

حول الموقع

سام برس