بقلم / نبيل الصوفي
انجاز ديني ووطني تاريخي

الاباضية كانت مذهب أهل المحويت، لكنها لم تحكم هناك، لعل ذلك عائد للمجتمع المحويتي عصي على الاقتلاع من أرضه تحت أى ايدلوجيا دينية او سياسية.
انتمائه لأرضه وتقاليد حكمها وعدد سكانهم القليل وموزعين في تجمعات سكانية كثيرة ومتباعدة..

لكنهما حكمت في حضرموت وماتبعها من محيطها.. قبل أن تنهزم دولتها، وكل دول الافكار هكذا، كل شيئ تحققه لافكارها عبر سلطتها، تتحول هزائم يتم اقتلاعها ومحوها بعد انتهاء هذه السلطة.

ولا ادري ان كان هذا واحدة من اسباب كسر الفقيه المقدم عيسى ابن المهاجر للسيف، ورفضه ربط فقهه بالسلطة.. فهو اصلا هرب بذلك الفقه الذي يقدم حلولا ترفض استخدام الدين للصراع على السلطة. مهما كان الحق للمدعي للسلطة.

هرب به الى حضرموت من بلاد الرافدين والشام والحجاز حيث صراعات الامويين والعباسيين من الشام والعراق الى تريم.. واتباعه لسبط رسول الله الحسن بن علي، الذي سار على نهج والده رافضا التمسك بسلطة يراق في سبيلها الدم.

الأهم من كل ذلك، ان الاباضية استمرت في تنقلها، حيث المجتمعات المعتدة بنفسها، فهي فرقة متفردة في بعض رؤاها الدينية كانها حالة انشقاق ابداعي، ولا يتقبلها الا من يشبها معتدا بتفرده، ولكن في نفس الوقت يكتفي بالاعتقاد مكان للتمايز.. لايؤمن باعتقاد كاذب جوهره الكره والمصلحة..

وكانت أرض عمان، بيئة مناسبة لصفات توافقية عدة، ساهم في تنميتها انكسار الامبراطورية الحاكمة من الخليج الى اطراف زنجبار الافريقية، ثم النهضة الشكلية التي وفرها النفط للمنطقة التي افتقدت في المقابل اي مشروع ثقافي ديني، فالوهابية تكتفي فقط بدك كل شيئ.. لاشيئ تغرسه هي ولا تحترم شيئا من غير بيئة "نجد"، حتى داخل نجد نفسها ان حدث تطور ما.

فتعمق حضورها في عمان، وساهمت في بناء شخصية عمانية مختلفة عن المنطقة برمتها..
هي فرقة انشقاقية، تقدم حلولا خاصة لكثير او لبعض من الافكار التي لاتزال السياسية العربية تنضم لمعسكراتها.

لازال السنة والشيعة، يتعاركون كأنما ليس هناك طريق آخر لتقييمها والخروج الجماعي من اخطاء الماضي باعتباره ارث لكل العرب والمسلمين، اكان ارث صالحا او فاسدا، فهو صار ارثنا كلنا.. علينا عادة غربتله بمجموعه لا الاصطفاف حول احداثه التي قد مر عليها الف ونصف نصف الالف من السنوات.

فانضمامنا للصراع القديم، لايحقق أي جديد.. فقط يجدد الاسباب.. ثم لاشيئ يحققه المنتصر ولا ينتهي فيه المغلوب على الاطلاق.
وهذا ساعد الدولة العمانية، لتبعد مجتمعها عن اطراف الصراع.. لانها لن تضيف شيئا لعتاولته.

ولكني قبل آن أرى هذا الفيديو، لم أكن أعلم هذه النرعة الاضافية العمانية التي تجاوزت الاباضية. الى منهج أكبر لو انه تم الترويج له لكان حلا عظيما في هذه الجزئية العدمية.

قبل شهر تقريبا، كتبت هنا دعوة لأنصار الله أن يتبعوا نهج عماني "الشيعي"، لم أوفق في التوضيح، انا اعتبر الخوارج والشيعة والمعتزلة، كلها مدارس ظهرت من عبائة الولاء للامام علي بن ابي طالب.. وقد تفاجئت بكمية الرسائل والملاحظات التي ارسلها لي اصدقاء هذا الفضاء الافتراضي من عمان، يعتبون علي، اقحام بلادهم في تسميات لم يتعود مجتمعها على سماعها، مثل شيعية مثلا او سنية او غيرها،، هي فقط بلاد لكل افرادها بكل معتقداتهم، وكان ذلك دافعا لي لقراءة الكثير عن هذه التجربة الثرية والمتفردة فكريا، بغض النظر عن اثار ذلك في وادي السياسة.

وهاهو جاء عاشوراء، ووجدته في صفحة أحد نشطاء عمان في عالم التواصل الاجتماعي.. اعدت نشره أمس، ولاني لم أكمل هذه الخاطرة، فقد اكتفيت باعادة تغريدته مع تعليق بسيط..
وهانا اكمل الملاحظة، استقبالا لعاشوراء التي سيكون موعدها غدا. وسيعيش العالم الاسلامي تدافع الصراع السياسي الذي يفسد روحانية اليوم..

هذا اليوم، هو الذي صامه الرسول صلى الله عليه وسلم، بعد أن سأل اليهود لماذا يصومونه فقالوا لانه انقذ فيه موسى من فرعون، فقال نحن اولى بموسى.

يوم توحيدي تاريخي عظيم..

ثم اصبح بسبب صراع السلطة القبيح، اليوم الذي ارتكب فيه جيش يزيد بن معاوية مجزرته الاجرامية في حق سبط رسول الله، الذي رأى أن عليه واجب القيام في وجه يزيد..

كان معاوية الذي انشق على خلافة علي ابن ابي طالب، قد توفى، فخلفه ابنه "يزيد".. معمقا للحكم العضوض، ضدا حتى على عادات العرب التي لم تكن تقبل حكما مفروضا، فكل قبيلة تحكم نفسها، جتى جاء الاسلام فادخل فيها نظام التشاور واهل الحل والعقد..

ومنذ مقتل الخليفة الثالث، عثمان بن عفان، دخلت بيت حكم المسلمين في صراعات حادة، شققت المشروعية، فاستغلها معاوية وانشق عن الأحق بالخلافة وهو الامام علي بن ابي طالب.
ومع أن الامام علي حاول الدفاع عن مشروعية الاختيار للحكم، وخاض قتالا مفروضا، لكنه كان ميالا لكل مايريق الدم ويعيد ترتيب مشروعية السلطة..

وقد كان هذا احد اسباب اغتياله، فالعشرات من اتباعه كانوا يرون اراقة الدم شيئا لازما للدفاع عن الحكم، ولم يكن علي يوافقهم، فتآمرو من يحبه ومن يبغضه عليه، فقتلوه بين يدي ربه..
ومثله فعل ابنه الحسن، الذي حكن وقتا قصيرا ثم تنازل عن حكم يشغل المسلم عن دينه بدنياه.

وكان الحسين، ملتزما الصمت، في عهد معارية، اما حين رأى يزيد يفرض نفسه خليفة، وهو غير مؤهل لها، ولا يضع اعتبارا لحق الاختيار والتوافق عليه، تصدى له وقاد ثورة مسلحة ضد يزيد ويدعي بالخلافه له.

ونتيجة كل ذلك، وكواحدة من جرائم عهد يزيد، نكل بالامام ابن الامام، سبط النبي.. ابن بنته.. لم يكتفي بهزيمته بل نكل به وعلقه مشنوقا وأسس تاريخا من اجرام الحكام لايزال مستمرا حتى يومنا هذا، في التعامل مع معارضيهم.

حتى ان علماء السنة، خرجوا بفتوى وجوب الخضوع للمتغلب، فهم رؤوا الثورات والانشقاقات تكون حول السلطة لكنها دوما تهدم كيان الأمة وتهين الشعوب والدول.
ومن المؤسف، ان عاشوراء امتدت سنوات، وقتل الكثير من انقى واعظم واصلح وأجل أحفاد الحسين، بذات طريقة مقتله ولو بعد سنوات طويلة.

وحتى الان، لايزال المسلمين ينقسمون، سنة وشيعة، ثم هاشمية وقرشية، أموية عباسية، خمينية سيستانية.. قم والنجف، عرب وعجم، مكه والطائف.. نجران ونجد.. وصعده ولحج.. يمن أعلى ويمن أسفل..

ومع ان الزيدية فرقة مقصية من داخل سلم الالتزام الشيعي الثنى عشري، حيث ان الزيدية تدعي الحكم على ايران، فيرفض الفرس ذلك وحولونها عندهم فرقة مستضعفة.. الا ان الزيدية أكثر تعميقا للثورية الحسينية ولو انها تخفف من شروط الحكم والحاكمية، فعند الزيدية من يرى في نفسه احق بالامام الحاضر، وجب عليه الدعوة لنفسه.
مقابل كل ذلك، هاهي عمان، تحدث ثورة فقهية دينية عظيمة..

كل الماضي ماضينا.. كل الفرق فرقنا.. نقبل ببعضنا، لنعزز بعد ذلك منهج المراجعة الذاتية وفقا لما يقتضيه الزمن والمكان.. كل فرقة تتنازل عن استغلال ماضي لايمكنها اصلا اعادته. فتعيد رؤيته باتزان وباعتدال، وتفصل بين ماهو حق وواجب للفكر والفقه، يبقى للناس في دور العلم والتاريخ، وبين السياسية التي فيها دولة مهمتها الاساسية إطعام الناس من جوع وتأمينهم من خوف، ومن حكم يمنع عليه أي حديث عن الاختلافات التي تفرق الشعوب.

ومن يريد تصحيح التاريخ، فاذا عليه بعدم الدخول في ميدان السياسة.
ويكفي التجربة السيئة للوهابية التي اثرت حتى على الاخوان المسلمين، فالاخوان كانوا اكثر تقدما وبعدا في اصولهم العشرين عن الاصطفاف التاريخي، غير انهم بتأثير السعودية تحولوا فرقة خلافية أكثر حتى من الوهابية في بعض افعالها وبخاصة منذ رفض الامام الخميني الاستماع لوفد الاخوان الذي زاره بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران، وتسكيل مجلس موحد يمنع ابقاء السنة والشيعة في صراعات السياسة.

ولعل الخميني يومها، كان مركزا جهده على انجاح اعظم اجتهادات العصر الاثنى عشرية ممثلا بـ"ولاية الفقيه" التي هي نظيرة فكرة الاخوان المسلمين سعيا لتمثيل الخلافة بجماعة.. فهو اوجد حلا للاثني عشرية، واعاد دمج الحوزات الدينية في السياسة، بعد أن بقت معزولة كل تاريخها بكائيات عامة، ومصالح للخاصة، وليس للناس والشعوب الا الاحاجي الروحية.

ومانجح فيه الامام الخميني، رحمه الله، لايزال مرفوضا عند الاسماعيلية والمكارمة مثلا، والذين ينتظرون خروج الامام الغائب، ولايريدون دولة قبله، ومهم الداعي فقط تنظيم الانتظار.

بيت القصيد أن رفض الخميني التحالف مع الاخوان، لعله كان ادراكا منه أن ثورته قد اضطرت لقتل رموز وطنية وحتى دينية كبيرة في ظل تدافع الصراع الثوري حول "ولاية الفقيه" ودستور ايران، كنوع من المخاطر التي يتطلبها فرض نظامه السياسي هذا.. فكيف اذا اضاف التحالف مع الاخوان.

وأن الاصح له، هو البقاء متمسكا بكونه ممثلا للشيعة الاثنى عشرية.

هو يعلم أنه حتى الشاه العلماني الذي قتل متظاهرين لانهم طالبوا بالحجاب، كان دوما كان يؤكد أن دولته، بهوية فارسية قومية، وشيعية دينيا.كنوع من احترام النفوذ الكبير للتشيع في وجدان الهوية الوطنية الفارسية الاسلامية، لدولة ايران.

هذه هي تجربة عمان.. وهي تتجاوز كل هذه التفاصيل.. واتمنى أن نراجعها جميعنا، سنة وشيعة.. ونقدمها فداء فعليا للحسين وزيد بن علي وجعفر الصادق والهادي، الذين توحش الحكم ضدهم، كأنه لايحق لهم الحكم وكأنه حق لمن هو ضدهم فقط..

يجب أن نراجع كل هذه الصراعات، فنعالج كل مايرتبط بها، سواء التي عالجتها التجربة العمانية باشتراط التعايش وكف غرس العداوة بين الفرق، والتفريق بين اختلافات التاريخ وبين واجب التعايش في الحاضر، وكل يهذب من ماضيه مايكره هو أن يوصف به استنادا على ماضيهم هم.

وبعدها في كل البلدان التي يمكن أن يناقش فيها طريقا ارشد للوصول الي السلطة بشروط تنظر لكل أفراد الشعب، كقدرات شخصية حاضرة، فالحكم اداء زماني، يجب أن لاينتقل من قريب الى قريب، ولا يدعيه أحدا بناء على تاريخ بينه وبينه مئات السنوات، وان لايتحقق بالغلبة المسلحة.. ولا رفض لحق أحد في السعي له، ونقل الغلبة الى صناديق انتخابية تبذل جهدها لتحقيق العدل والحق والحرية، وصولا الى زمن حين نبكي على الحسين، فاننا نبكيه مظلوما لم يعد من الممكن ظلم غيره كمثل ماظلم، لا من محبيه ولا من مبغضيه، طالما وهم في مدات السياسية فبينهم وبين الحكم صوت الناس وآهل الحل والعقد..

يتوجب علينا الاقتداء بهذه التجربة العمانية، التي صفت القلوب، وابقت الاختلافات حقا مادام ابقت على قلوب اتباعها صافية من خصومهم، فالخلاف عام وفكري وليس صراعات شخصية، في زمن صار حتى الصراع الشخصي اصبح له منافذا ينتهي دونما احقاد..

من صفحة الكاتب بالفيسبوك

حول الموقع

سام برس