د. عبد الحي زلوم
الحلقة الثانية: البعد النفطي لحرب أكتوبر: كيف رفع كيسنجر اسعار النفط.. وكيف اعاد تدوير عائداته

شهدت السنوات الثلاثة الاولى من عقد سبعينيات القرن الماضي أحداث مصيرية وخطيرة بالنسبة لامريكا ومشروعها الامبراطوري بل وحتى ديمومة وضعها الاقتصادي:
للمرة الاولى في تاريخها في 1970 أصبحت الولايات المتحدة مستوردة للبترول بعد أن كانت مصدرة له . كان تزويدها للنفط لبريطانيا سبب الحسم في هزيمة هتلر لإنعدام مصادر نفطية لديه ، فهل ستصبح الان الولايات المتحدة في هذا الوضع؟

بدأت الولايات المتحدة تتحمل عجوزات في ميزانيتها نتيجة إستيراد النفط والأنكى من ذلك دلت الدراسات أن العجوزات المستقبلية لا يمكن تحملها تحت النظام المالي الحالي فأصبح لزاماً لتغيير النظام المالي القائم.

كانت الولايات المتحدة تطبع دولارات أكثر من المسموح لها حسب إتفاقية بريتن وودز لتمويل حربها في فيتنام وهي مخالفة اكتشفها ديجول فتم ازاحته ، ولكن المشكلة بقيت، فتوجب إيجاد نظام مالي عالمي جديد وأصبح وضع الدولار مهدداً كعملة الإحتياط العالمية. فتم إلغاء إلتزام أمريكا بسعر الصرف الثابت في اغسطس 1971 الذي يعتمد على طباعة الدولارات بمقدار ما لدى الولايات المتحدة من احتياطات الذهب .

في النصف الثاني من الستينيات اكتشفت الشركات الأمريكية والبريطانية البترول في الاسكا ولكن بكلفة 5 دولارات للبرميل وفي بحر الشمال ولكن بكلفة 7 دولارات للبرميل في الوقت الذي كان فيه سعر البترول 2 دولار للبرميل. لتصبح هذه الاكتشافات مجدية يجب رفع أسعار البترول إلى 400%. ولكن كيف يكون ذلك؟

كما جاء تفصيله في كتابي “حروب البترول الصليبية” بعد أن رتب كيسنجر امره مع السادات بدأ بالترتيب مع مؤسسات الظل التي ترسم السياسات لتنفذها الحكومات. والبيلدربيرغ هي إحدى هذه المؤسسات التي عقدت اجتماعها في السويد.

في مايو 1973، عقد 84 من كبار رموز السياسة والمال في الغرب اجتماعا لهم في فيلا عائلة والنبيرغ Wallenburg المالية اليهودية المتنفذة في السويد ، والواقعه في جزيرة سولتجوبيدر Saltsjoeboder، وكان من بين الحضور هنري كيسنجر وعدد من كبار مدراء الشركات النفطية والمصارف والمؤسسات المالية العالمية .

كان الموضوع الرئيسي قيد البحث هو الاستعداد) وليس منع (للزيادة المتوقعة في أسعار النفط في المستقبل القريب . استمع الحضور لعرض من والتر ليفي) وهو يهودي (Walter Levy حول هذا الموضوع ، وكان السؤال الذي يحاول المشاركون الإجابة عنه هو كيفية إدارة عملية ” إعادة تدوير تدفقات الدولارات النفطية ” إلى البنوك الأمريكية والبريطانية. كان من بين أبرز المشاركين في الاجتماع
من الولايات المتحدة : جايمس اكنز James Akins (البيت الأبيض) روبرت اندرسون Robert O.Anderson (رئيس مجلس إدارة شركة اتلانتيك رشيفيلد النفطية)، جورج بول George Ball (نائب وزير الخارجية الأسبق ، ومدير دار ليهمان برذرز Lehman Bros المصرفية)، زبيغنيو برزنسكي (مستشار الأمن القومي لاحقا)، وليام بندي William P. Bundy ( عضو مجلس العلاقات الخارجية ، نيويورك)، اي . جي .

كولادو E.G. Collado ( نائب رئيس شركة اكسون النفطية ) ، آرثر ديين Arthur Dean ( شريك قانوني لدار سوليفان آند كرومويل Sullivan and Cromwell)، هنري . جي . هينز Henry J. Heinz II ( رئيس مجلس إدارة شركة هينز Heinz )، هنري كيسنجر (مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض)، وولتر ليفي Walter J. Levy (مستشار نفطي ومعد ورقة بيلدبيرغ)، روبرت ميرفي Robert D. Murphy (من كبار موظفي وزارة الخارجية سابقا )، جون تاور John G. Tower (سيناتور)، وكارول ويلسون Carroll Wilson (أستاذة في جامعة ام . آي . تي).

من بريطانيا العظمى : سير إيريك دريبيك Sir Eric Drake ( رئيس مجلس إدارة بريتش بتروليوم British Petroleum)، سير دينيس غدينهيل Sir Denis Greenhill ( مدير شركة بريتش بتروليوم British Petroleum) ، دينيس هيلي Denis Healey ( عضو برلمان ) سير إيريك رول Sir Eric Roll ( نائب رئيس شركة ووربيرغ Warburg وشركاة ) ، وسير ريجنالد مالدينع Sir Reginald Maulding ( عضو برلمان) .
من فرنسا: رينيه غداينير دو ليلياك Rene Granier de Lilliac ( شركة البترول الفرنسية)، البارون ادموند دي روتشيلد Baron Edmond de Rothschild (مصرفي).
من المانيا : ايفون باهر Egon Bahr ( وزير وزارة الحزب الاشتراكي الديمقراطي ) ، هيلموت شميدت Helmut Schmidt (وزير المالية، الحزب الاشتراكي الديمقراطي ) ، بريجيت برويل Birgit Breuel (مجلس مدينة هامبورغ ، الحزب الديمقراالمسيحي )، ثيو سومر Theo Sommer (ناشر صحيفة دي زييت Die Zeit) ، اوتو وولف فون اميرنوجن Otto Wolff von Amerongen (غرف التجارة الألمانية ).
من ايطاليا : جيفاني اغنيللي Givanni Agnelli ( شركة فيات FIAT) ، المركيز سيتاديني سيزي ورافائيل جيتروتي Merchese Cittadini Cesi, Raffaele Gitrotti (رئيس مجلس إدارة شركة ENI)، وراييغو ليفي Arrigo Levi (من جريدة لاستمبا La Stampa).
من السويد: أولوف بالمه Olof Palme (رئيس الوزراء)، ماركوس والنبيرغ Marcus Wallenberg (رئيس مجلس إدارة سي _ بانكين) كريستر ويكمان Krister Wickman (حاكم البنك المركزي).
من هولندا: اف.جي . فيليبس F.J. Philips ( رئيس مجلس إدارة شركة فيليبس Philips)، غيريت أ. واجنر Gerrit A. Wagner ، وماكس كوهنستامن Max Kohnstamm. ( رئيس مجلس إدارة شركة رويال دتش شل Royal Dutch Shell).

يلاحظ هنا تواجد كبار القائمين على الشركات النفطية الأمريكية والأوروبية، ورجال المال والمصارف، وهنري كيسنجر ممثلاً للبيت الأبيض، وخبراء الطاقة ومسؤولين سياسيين وحزبيين أوروبيين، تم في ذلك الاجتماع السري الاتفاق على العمل على رفع أسعار النفط لما فوق كلفه إنتاج بحر الشمال أي إلى 400% من السعر الدارج وكيفية إسترداد الدولارات الفائضة من الدول النفطية إلى البنوك والاقتصاد الأمريكي خصوصاً والغربي عموماً تحت مسمى تدوير البترودولارات. ونذكر أن هذا الاجتماع عقد قبل5 شهور من حرب أكتوبر!!!!

كما تم الاتفاق على عقد الاجتماع التالي للمتابعة بعد سنة ( أي بعد الحرب) في فيلا المصرفي اليهودي ، البارون ادموند دي روتشيلد Baron Edmond de Rothschild في فرنسا.

اندلعت حرب السادس من أكتوبر عام 1973 نجح المصريون في اقتحام خط بارليف Bar Lev line الدفاعي المنيع ، وفي وقت قياسي. خاضت القوات المصرية قتالاً جيداً في تنفيذ عملية تم التخطيط لها بصورة جيدة. كان اداء الجيش المصري قيادة وضباطا وجنودا أفضل بكثير مما كان متوقعا ومخططا له .

فقد جاء استسلام القوات الإسرائيلية في منطقة القناة وتدمير أكثر من 300 دبابة إسرائيلية في الايام الاولى للقتال ، ليفتح الجبهة على مصراعيها أمام الجيش المصري.

يرى الاستراتيجيون العسكريون انه كان بإمكان الجيش المصري بل ويجب الاندفاع الى الممرات فورا وذلك لأن القيادة العسكرية الاسرائيلية كانت منهارة وستكون الممرات خط دفاع يسهل الدفاع عنه .

كما أن مقتل اسرائيل كان لأنها تخزن دباباتها وكافة أسلحتها هناك . استيلاء الجيش المصري عليها قبل وصول قوات الاحتياط يحسم المعركة .

لهذا انهار موشي ديان. لذلك طلب كيسنجر من السادات عدم التوسع في العمليات وبالتالي جاءت رسالة حافظ اسماعيل في 7 اكتوبر لتأكيد ذلك.
صحيح ان الاندفاع في اليوم الثاني بعد نطاق حائط الدفاع الجوي الصاروخي المصري كان سيعرض الجيش المصري الى خسائر ولكنه يكون قد حسم المعركة نهائيا لصالحه.

اما الاندفاع كما فعل السادات (صوت سيده) بعد وصول قوات الاحتياط الى أسلحتها في الممرات ودخولها الخدمة القتالية عندئذ فخسارة القوات المصرية ستكون مضاعفة من الطيران بالاضافة الى القوات المدرعة من الاحتياط التي دخلت لتوها المعركة.
المأساة ان قيادة الجيش المصري كانت عالية الكفاءة والوطنية وكان على راسها جاهل في العلوم العسكرية وخبير ببيع نفسه للآخرين.

ومع تدمير الكثير من الدبابات والمعدات الحربية الإسرائيلية، بدأت الولايات المتحدة المرحلة الثانية من سيناريو الحرب، وشرعت في تنفيذ جسر جوي مكثف لنقل الأسلحة لإسرائيل. عندما أبلغ المستشار الألماني ويلي براندت Willy Brandt السفير الأمريكي في بون بأن ألمانيا ستتخذ موقفاً حيادياً حيال الحرب العربية الإسرائيلية ، ولن تسمح للأمريكيين باستخدام القواعد الجوية أو مخازن الأسلحة في ألمانيا في عملية إعادة تسليح إسرائيل، وجه كيسنجر رسالة شديدة اللهجة، رافضأ أن يكون لألمانيا الحق في اتخاذ موقف حيادي من الحرب، أو وقف إعادة تزويد إسرائيل بالأسلحة من الأراضي الألمانية .

كانت الطائرات الأمريكية المحملة بالأسلحة والمعدات المتطورة المتجهة لإسرائيل تهبط على أراضي سيناء المحتلة بدلاً من المطارات داخل إسرائيل، وذلك كسباً للوقت ، إلى أن تمكنت إسرائيل من قلب الأوضاع العسكرية في المعركة على الخطوط العسكرية الضعيفة التي وضع السادات القوات المصرية فيها. بعدها دخلت الحرب مرحلتها الثالثة بهيمنة كيسنجر على المشهد السياسي بالكامل، حيث بدأت جولاته المكوكية الشهيرة، التي أدت إلى فرض الأجندة الإسرائيلية كما وضعتها حكومة تل أبيب بتاريخ 19 يونيو 1967، أي قبول إسرائيل الانسحاب من سيناء ومرتفعات الجولان من خلال المفاوضات المباشرة، مع استثناء الضفة الغربية وغزة، واللتان ستتركان إلى وقت لاحق باعتبارهما قضية منفصلة، وهو ما فعله كيسنجر بالتزام تام. جاءت جولات كيسنجر المكوكية لتستثني الأردن، الذي جردته قمة الرباط من حق التفاوض حول القضية الفلسطينية وبخاصة مستقبل الضفة الغربية وغزة واللاجئين.

جاء تنازل السادات عن أمور كثيرة دون مقاومة بمثابة مفاجأة للإسرائيليين ، فقد جاء ما حمله كيسنجر إليهم أكبر من توقعاتهم بكثير. فهذا عضو بارز في الوفد الإسرائيلي المفاوض يخاطب كيسنجر بلهجة غير المصدق لما حمله الوزير الأمريكي ، قائلاً “هل تعني بأن السادات لم يبدأ بطلب تواجد 300 دبابة؟”، وعندما أبلغ نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي إيغال الون Yigal Allon كيسنجر بأن إسرائيل ستقبل الاتفاقية التي “أبرمها” مع السادات ، انفجر كيسنجر ضاحكاً بالقول: “إنه انتصار كبير أن ننجح بإقناع إسرائيل بالقبول بالاقتراحات التي أعدتها بنفسها”. وعندما طلب آلون إدخال بعض التعديلات ، أجابه كيسنجر “لا مجال هناك لأي تغيير، لأن ذلك سيستغرق وقتاً طويلاً يسمح لمستشاري السادات الضغط عليه للتراجع عما وافق عليه”.

بعد الحرب طلب كيسينجر من شاه ايران وكان وقتها كلب حراسة الخليج أن يطلب من الدول المنتجة بالخليج زيادة الاسعار. صديقي الكاتب وليام ف انقدال الامريكي الجنسية المقيم في ألمانيا اخبرني أنه عندما سأل أحمد زكي يماني وزير النفط السعودي أثناء حرب اكتوبر عن اسباب زيادة الاسعار فأجاب اليماني: “عندما أخبرني الشاه بضرورة زيادة اسعار النفط سألته لماذا فأجابني . اطلب من مليكك أن يسأل كيسنجر فعنده الجواب .”
الحلقة القادمة (3) يوم الاحد: البعد الاقتصادي لحرب اكتوبر؛ النفط بدل الذهب غطاء للدولار ومصائد الديون للدول النامية وعولمة الفقر.
مستشار ومؤلف وباحث
نقلا عن رأي اليوم

حول الموقع

سام برس