بقلم / د. إسماعيل ناصر الجند
قبل أن أخوض في التفاصيل ، أحبُّ في البداية أن أؤكدُّ لكم ،وبما يُمليه عليّ شرف الموقف وقيم ديني وتربيتي وأمانة النقل للحقيقة وللتاريخ ،بأنني سأروي هنا وبكل مصداقية وتجرّد عن أي تأثير شخصيّ أو فكري أوسياسي، حكاية حقيقية عشتُها كشخص ناضج يعي تماماً ما كان يدور من حوله ، لأن لها في الواقع دلالات عدّة ومنها:إجتماعية وهذه أحسبُها مهمة ومفيدة للآخرين، كونها تحكي معاناتي كطالب قَدِم من الريف إلى المدينة في ستينيات القرن الماضي ، وعن أهميتها على إعتبار إن لها دلالة وطنية - أيضا - فمردُّ ذلك عن كونها توضّحُ مخاطر أكثر السموم والأوبئة فتكاً بالمجتمعات والأمم وقيم السلام والتعاييش ، تلك هي مخاطر وسموم ( الطائفية) المدمّرة لنسيج المجتمعات وعقول الناس ونفوسهم وأوطانهم وهوياتهم الجمعية ، سيما إذاما كانت في مراحل وظروف حرجة كهذه التي يمرُّ بهاوطننا اليمني والتي أعتبرها ،كرأي شخصي تُعززه التجربة والقراءة ،أكثر خطورة وتهديداً من حرب وصراع أغسطس في العام (1968)الذي سأشير له لاحقاً في مضامين هذا الطرح .

كما أن لها دلالة أخرى أكثر اضافة وأهمية ،حيثُ تُعدُّ مؤشّراً وترمومتراً للصفات القيادية الوطنية،التي توافرت يومها لدى الشخص الأول في الدولة الذي كان له الفضل ، بعد الله ، في إنهاء الحرب في اليمن بعد ثورة( السادس والعشرين من سبتمبر 1962) المجيدة ، وأقول هنا المجيدة والعظيمة مع وضع خطوط تحت المفرديتين الأخيرتين ، لأنها - وأقولها بكل أسف وحسرة - لم تكتمل ولم تُحقق جميع أهدافها التي وضعها أبطالها ومثقفوها ومفكروها ورجالاتها، هذا من جهة ، ومن جهة ثانية : لم تُحقق لأبناء هذا الشعب تطلعاتهم وأحلامهم التي ناضلوا من أجلها وحلموا بها كثيراً، وهم يتقلبون في مدارج اليأس والرجاء ، السعادة والشقاء ، الأمل والألم ، وربما إن هذه المفردة الأخيرة هي التي صار يعيشها بكل تفاصيلها ، هذا الشعب بسبب أعداء الثورة والمدنية والعلم، ودولة المساواة والعدالة الاجتماعية.

المهم ..قصتي هي أنني مثل الكثير من أبناء اليمن الذين توجهوا من مناطقهم إلى مدن محددة ومحدودة بعد ثورة سبتمبر للالتحاق بالمدارس الحديثة والإقبال على التعليم الذي كان الوسيلة الأقرب لتحقيق مجمل أهداف ثورتنا السبتمبرية النبيلة ،المتمثّلة بالقضاء على الفقر والمرض والجهل والطبقية والسلالية و.....الخ.

وفي العام (1965) ألتحقتُ في العاصمة صنعاء بمدرسة (الوحدة ) الابتدائية آنذاك ، (جمال جميل ) لاحقا، بعد أن قضيتُ سنة في مدينة العلم والعلماء والتسامح (زبيد ) والتي أمضيتُها بالفعل ، في تحصيل العلوم الدينية والسّير وغيرها.

وبعد انتقالي إلى العاصمة صنعا وأضبتُ على التعليم الحكومي الرسمي ونلتُ الشهادة الإبتدائية في العام (1967) وأذكرُ أنني عشتُ تفاصيل حصار السبعين يوماً الذي ضُرب على صنعاء ، وقد كانت إقامتي بتلك الفترة الصعبة في (بستان الخير) الذي كان فيه الكثير من التعاييش والتسامح والأمل بالنصر والتغير نحو الأفضل ،رغم طول الحصار الذي ظل يُهدد المدينة كل ليلة بالسقوط في أيدي القبائل المحيطة بالعاصمة والموالية للملكية ،وسوف أتناول ، من واقع تجربتي ، موقف هذه القبائل منذ قيام الثورة حتى اليوم في موضوع مستقل في مناسبة أخرى.

على أية حال من طرفي أعتقدُ أن حصار (السبعين يوماً) الذي أنتهى بإنتصارمؤقت للقوى المدافعة عن صنعا، لم يكن له ذلك التأثير الكبير الذي أدى بعد ذلك إلى حرب الـ ( ثلاثة أيام ) والتي عُرِفت بأحداث اغسطس (1968) لأن الحرب الأولى - حصار صنعاء - كانت في الحقيقة بين مشروعين ( جمهوري - ملكي ) لكن هذه الأخيرة / حرب أغسطس كانت في جوهرها وملامحها عبارة عن مشروع طائفي خطير، لهذا فقد أصبحنا نحن الطلاب الذين ننحدرمن المناطق (الشافعية ) ونسكنُ في بستان الخير (شارع 26 سبتمبر ) في عاصمة اليمن والثورة ، نُواجه معاناة من نوع آخر، فمنذُ اليوم الثاني لتلك الحرب واجهنا حرباً نفسية وعنصرية وطائفية أكثر إيلاماً وضرراً من أي حرب أخرى ، وتخيلوا مصدرها من أين جاء ؟

: لقد كان مصدرها ، بكل أسف ، زملاؤنا الذين عشنا معهم سنوات بكل سلام واحترام، ننظرللأمم ونحلم معاً بدون أي فوارق أو عدائية ،وكأننا أبناء عائلة واحدة ، لكن يبدو أنها حصلت تغذية من قِبل أصحاب المشروع الارتدادي على قيم الثورة والتسامح والمواطنة المتساوية ، وليس أدل على ذلك،الألفاظ الطائفية والمناطقية والمضايقات التي طرأت على سلوك وثقافة مفردات زملائنا ،في ليلة وضحاها ، التي كما ذكرتُ ، ربما كانت خبيئة في صدور المحركين لهم الذين يجيدون قتل المشاريع الوطنية والعودة للخلف بكل عنفوان ولؤم ..

وأمام تلك المنغصات الواضحة التي بدأت تدبُّ في عروق واقعنا ،كان الحل الوحيد لدى البعض - وأنا واحدٌ منهم - هو الانتقال إلى مدينة تعز التي ، بالفعل غادرنا إليها ، وفيها درستُ الصفّ الثاني إعدادي في مدرسة (الشعب الصناعية) وسكنتُ بدار الناصر بالمدينة القديمة . وكي لا أسترسل كثيراً ، سأخلصُ في هذه النقطة إلى أنني مع ابن عمي الذي كان يكبرني سناً قمنا باصطحاب أخوه الأصغر سناً معنا للدراسة في تعز وكان وقتها مقرراً لطالب القسم الداخلي ثلاث حبّات روتي من النوع الصغير جداً ، وكانوا يطلقون عليه( روتي صامولي )،ولأن ابن عمي الصغير ليس معه صرف واعاشة من القسم الداخلي، فقد كنتُ ملزماً أدبياً وبتوجيهات من ابن عمي الأكبر ، بإعطائه واحداً من الثلاثة الروتي الذين أحصلُ عليهم ومن ثمّ اكيف نفسي على العيش باثنين طوال اليوم ، ولا أعرف هنا، هل ممكن أن تصدقوا حقيقة أن ما يبقى لي من روتي (اثنين ) لايكفي لوجبة الإفطار التي كان يُصرفُ لنا معها فاصوليا نرى السوس تتحرّك فيها بكل نشاط وحيوية..

ولستُ مبالغاً إذاما قلتُ إن أنسب توصيف لتلك المعيشة هو، أنني عشتُ حياة وظروف الجوع الحقيقي، سيما وأسرتي بعيدة عني ولا تعرف شدّة وقساوة ما أكابده من أوضاع ومعاناة. لكنّي في الواقع لم أستسلم ، ولكي أخروج من تلك المجاعة التي كانت مكتملة الأركان ، هداني تفكيري لتنفيذ مهمة فدائية، أشرتُ إليها من بعيد في عنوان مقالي هذا ،وقد تمثّلت تلك العملية الفدائية في أنني قمتُ بكتابة طلب إلى رئيس المجلس الجمهوري حينهاالمرحوم القاضي عبد الرحمن الارياني الذي أعتبره (مانديلّا اليمن ) والذي كان يومها مازال يداوم في القصر الجمهوري بتعز الذي يقع في منطقة العقبة ، وبحكم أنني لا أستطيع الدخول إلى مكتبه في القصرومقابلته ،فقد أنتظرتُ خروجه من القصر ، مستغلّاً إلى حدّ ما انشغال حراسته بفتح الطريق لمروره من بين جموع المواطنين الذين كانوا متواجدين حينها ،لأندفع وبأقصى سرعة عبرالممرباتجاه ذلك الأب والرئيس - رحمة الله تغشاه وتسكنه الجنة - وأعترفُ إنها كانت لحظة عصيبة جداً، حيثُ كنتُ أشد القاضي/ الرئيس من معطفه الذي يرتديه ، فيما أحد مرافقيه كان يسحبني للابتعاد عن طريقه، وأثناء ذلك الشد والجذب الذي يجري بيني وبين أحد مرافقيه ، إذا بالرئيس يأمره أن يتركني، فتركني، بالفعل، وحينها باشر الرئيس بسؤالي : ماهو موضوعك؟ فطرحتُ عليه قضيتي بإيجاز شديد وهي: أنني قدمتُ من وصاب للدراسة وأريدُ صرف ومعاش أسوة بأمثالي من زملائي الذين هم بالقسم الداخلي..

ماذا تعتقدونه قال ؟ كيف كان ردّه لي ؟
سأقول لكم : ردّ عليّ وبكل تواضع ورضا وود ، حيثُ باشر من فوره باخرج قلم من جيبه ووجه مدير التربية باعتماد الصرف والمعاش أسوة بطلاب القسم الداخلي لم يقل ضع ورقة عند المرافق أو في السكرتارية ولم يتأفف لطلب بسيط كهذا في نظر رؤساء ومسؤلي اليوم ، ولم يصرّفني بكلمة أو وعد وإشارة لأحد مرافقيه وطابور الحشم والمرافقين والبطانات كتلك التي عرفنها مع غيره لسنوات طويلة.

المهم حينها لم أستطع أن أتمالك مشاعر البهجةوالفرح التي غمرتني وجعلتني أحسُّ بأنني إنسان فاعل وسأتمكن من مواصلة مشواري وحقي في التعليم وتحقيق ذاتي ، خاصة وقد توفر لي القرص الروتي أو ( الصامولي ) الثالث الذي كنتُ أعطية لابن عمي ..

من المفيد الإشارة قبل أن أختتم حديثي إلى أنني أروي اليوم هذه الحكاية الحقيقية التي تمثل جزءاً مهماً من حياتي الحافلة بالتعب والكفاح والجد، وحياة الكثير والكثير من أمثالي الذين سلكوا نفس الدرب وعاشوا نفس الأوضاع ، وذلك رغبة مني في توضيح حقيقة قد تكون غائبة عند البعض وهي ، أننا أول أيام وسنوات الثورة السبتمبرية عشنا ظروفاً صعبة ومعقدة على المستويات الشخصية والمعيشية والاجتماعية والوطنية ، وقد كان أخطرها تقريباً أحداث أغسطس المؤلمة، كما أريدُ من خلال حديثي هذا الذي يعكس ويصور تجربة شخصية ووضع عام في هذا البلد الذي ننتمي له جميعاً، أن أُطلع القارئ الكريم على الصفات التي كانت متوافرة لدى مسؤليّ الدولة ولدى الرجل الأول فيها ، لأنني أعتقد لو أن مواطناً اندفع نحو رئيس من غير تلك الطينة والخامة الوطنية والإنسانية والأخلاقية النادرة في زماننا هذا، وبالشكل الذي قمتُ به أنا يومها، لكان قُضي عليه فوراً قبل أن يرتدّ إليه طرفه ،ويتمكن من لمس أطراف معطف وثياب الرئيس.

في الأخير بقي أن أضيف وأقول : لعل من تابع ويتابع مناشداتي ومواقفي الدائمة من الحرب الداخلية التي تُدارُ وتستعرُ في بلادنا وفي أكثر من منطقة ، ربما أنه لم يدرك بأن طرحي ومبدئي الثابت والرافض للحرب والفوضى وتغذية مشاعر الاحباط ينطلق من تجربة مُرة عشتها وتعبتُ من تأثيراتها ، ومثلما ذكرتُ لكم سلفاً إن حرب الثلاثة الأيام في أغسطس كانت أكثر خطراً من حصارالسبعين يوماً على العاصمة صنعا ،لأنها أثرت على الوحدة الوطنية و أستمرت آثارها على حياتنا إلى اليوم وأثرت سلبا على صياغة واقع وسياسة جديدين ، ومن خلال تلك المقايسة أعتقد إن ما يجري حالياً من حرب وصراعات شعواء تأخذ أبعاداً مختلفة ستكون أكثر تأثيراً وتهديدا للنسيج الاجتماعي وللتعاييش وللوحدة الوطنية من تلك التي جرت في أغسطس (1968) و سوف أتناول هذا القضية ، أوالقضايا بشكل أكثر تفصيلا في قادم الأيام إن شاءالله.

حول الموقع

سام برس