بقلم / محمود كامل الكومى
كيث روبرت مردوخ رجل أعمال) أسترالي أمريكي ( و قطب من أقطاب التجارة والاعلام الدولي و المدير العام لشركة نيوز ليميتد News Limited "الأخبار المحدودة" في أستراليا وهو مؤسس، ورئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي للشركة القابضة للإعلام الدولي , ومالم أكبر الصحف فى أستراليا وبريطانيا وأمريكا - على التليفون .

الأستاذ : يرد مرحبا

مردوخ : لاأريد أن أضيع وقتا , ولا أريدك أن تتعجل فى أبداء رأيك ولكن معك كل الوقت , وحال أن يدق جرس تليفون مكتبى معلنا أنك على الخط , سأعتبر ذلك قبول منك ل منصب رئاسة تحرير ال ذى تايمز البريطانيه , ولك مطلق الحريه فى أختيار المبلغ الذى تحدده.
الأستاذ : لايجد الفرصه للرد أو الاعتذار لكنه يشكر المتحدث بأحترام .

كان ذلك مساء السبت الثانى من فبراير (شباط ) من العام 1974م , وكانت الصحف المصريه الصادره صباح هذا اليوم قد نشرت على صدر صفحاتها الأولى خبر مفاده صدور قرار " السادات" ، بشأن نقل الأستاذ هيكل من صحيفة الأهرام إلى قصر عابدين كمستشار لرئيس الجمهورية ( وهو ما يعنى أقالته ) وهو المنصب الذى رفضه هيكل ليخرج من الأهرام فى اليوم ذاته مُصرِّحًا: "يملك الرئيس قرار إخراجى من الأهرام، أما أين أذهب بعد ذلك فهو قرارى وحدى، وقرارى هو أن أتفرغ لكتاباتى وكتبى فقط .

وكانت مبررات رفض هيكل لعرض "مردوخ"أنه لايمكن له أن يرأس تحرير جريده فيها من الكُتاب من يناصب العرب العداء لصالح أسرائيل , وأنه لايطيق العمل خارج مصر , وأنه قد حزم أمره للتفرغ لكتبه وكتاباته .

وأنصب أهتمام الأستاذ .. الأكبر على مشروعه البحثى والتحليلى لواقع مصر والوطن العربى وأزمات الشرق الأوسط وتشابكات وتعقيدات علاقاته السياسيه- وقد -كتب هيكل ـ تحقيقات ومقالات لكبريات صحف العالم وفى مقدمتها "الصنداى تيمز" والتيمز" فى بريطانيا، ويومى يورى اليابانيه كذلك قام بنشر العديد من الكتبً فى مجال النشر الدولى بينها "خريف الغضب" الذى ظهر فى 31 لغة ـ و"عودة آية الله" ـ و"الطريق إلى رمضان" ـ و"أوهام القوة والنصر" ـ و"أبو الهول والقوميسير" وغيرها.... وكلها نشر ما بين 25 ـ 30 لغة تمتد من اليابانية إلى الأسبانية. كذلك نشر باللغة العربية فى هذه الفترة 28 كتاباً أهمها حتى الآن مجموعة حرب الثلاثين سنة (4أجزاء)، والمفاوضات السرية بين العربى وإسرائيل وكتب مقالات منتظمة لوكالات نشر عالمية، وبدت مئات الصحف العالميه تتبارى على نشر مقالاته ,ويؤكد كل القريبين من هيكل أن القيمه الماديه لمقالاته عالميا كانت هى الأغلى من بين الكتاب , فى حين أنه مصريا وعربيا كان يرفض أن يتقاض اجراً على مقالاته .

وبعيدا عن القيمه الماديه لمقالاته العالميه والتى كانت تستمد قيمتها العاليه من أسلوبه الرشيق وتحليله الأستراتيجى البعيد النظر وسعة أفقه وعلاقاته بالكثير من حكام العالم الذين أثروا فى التاريخ خاصه فى عصر الحرب البارده ودول عدم الأنحياز أمثال( تيتو ونهرو وبدجورنى وخروشوف وسوكارنو ولوممبا وأنديرا غاندى وبن بيلا وهوارى بومدين والسلال وعارف وحوارته ومقابلاته الصحيفه مع الكثير من الزعماء وكذلك العالم اينشتين ,وأقترانه بالزعيم جمال عبد الناصر فى فترة من أهم فترات التاريخ الحديث , ومن هنا صارت القيمه الفكريه والتاريخيه والسياسيه وحتى الأجتماعيه هى الأغلى عالميا , وعلى ذلك صار "هيكل " آذان وعيون التاريخ كما أطلق عليه علماء التاريخ الغربيين مثل السير ستيفان رانسيمان – أستاذ التاريخ الأشهر الذى حقق لنفسه مكانه فريده حين جلس على كرسى التاريخ فى جامعتى أكسفورد وكامبردج – موجها خطابه الى الكاتب والصحفى الكبير محمد حسنين هيكل "ولقد كان ما أثار أهتمامى فى تجربتك هو أن التاريخ عندك له آذان وله عيون أيضا".

وقيمة هيكل الغاليه استمدت من مواقفه تجاه عبد الناصر وتجربته القوميه وعدم تنكره للرجل ودفاعه عن التجربه الناصريه , وتحليل واقع الأخطاء فيها بفعل الأستعمار والصهيونيه والرجعيه العربيه التى ما انفكت تحارب زعامة جمال عبد الناصر بما يحمل من مشروع قومى عربى تحررى بكل السبل والتآمر حتى بعد وفاته على روحه الخالده , وكان هيكل هو المتصدى لتلك الحرب الضروس فى الوقت الذى تنكر كثير من الكتاب وباعوا العروبه وحملوا معاول الهدم لكل ماهو انجاز قومى عربى وأقتصادى حر بعيدا عن التبعيه ومن اجل أقامة عداله اجتماعيه للشعب العربى ,فأندثروا وتطايروا مع اول حفنه من البترودولار دخلت جيوبهم نظير أستخدامهم من حكام الرجعيه فى السعوديه لهدم هرم العروبه جمال عبد الناصر, وبدت أصالة "هيكل " هى القيمه وصار هو الأغلى فى العالم .

فى فكره وعقله ووجدانه فلسطين – الصراع من اجلها مع العدو الصهيونى وجودى لاحدودى -,وكان ذلك نظيرا بأن يبعده السادات عن الأهرام بل وأن يسجنه أيضاً حين عارض أتفاق الصلح بين السادات وأسرائيل , حيث رؤيه هيكل أن السلام مع اسرائيل لايزال مستحيلا ,لأنه يصعب أن يرى سلاما بين طرفين يجلسان على مائده أحدهما يقدم الجغرافيا والتاريخ والقانون سندا لحقه , والآخر يؤسس دعواه على أنه وقع عقدا مع مجمع آلهه ,اله سماوى ,واله أمريكى ,واله نووى , ولذلك فهو الأغلى عالميا , لأن من يتخلون عن حقوقهم المشروعه تتدنى قيمتهم الماديه والمعنويه ويصيرون كالعدم سواء.

وعند هيكل فكره المستقبل العربى لم تنهزم ولم تتنازل عن حلمها أو تتراجع أمام المطالبين بالسيطره على موضعها وموقعها ومواردها – ولا أمام الواهمين بتبديل فكرها وعقلها وروحها ولا أمام الشيطان وأحلافه ........وهو المحلل الأستراتيجى الذى يدرك أن من لامستقبل له ,لايحق له أن يحلم ولا أن يحقق ذاته فلا أمل له أن يعيش , فعاش هو رغم الكفن , ومات أحياء كل الكتاب المنبطحين المطبعين الذين لم يروا اِلا أسرائيل هى الوحيده التى لها حق الوجود طالما أنها جزء من الشيطان الأمريكى الأكبر - لذلك كان هيكل هو الأغلى .

كانت المقاومه الفلسطينيه عنده أمل ..كتب عنها وناصرها ومن اجل الحفاظ عليها من الأنضواء تحت جناح الأنظمه حذرها ,و أشد ما أثر فيه نفسيا هو الغزو الصهيونى لبيروت التى لها مكانه خاصه فى نفسه , لذلك فقد قدر المقاومه اللبنانيه حق قدرها وثمن دورها .. وبدت كلماته للسيد حسن نصر الله تعزيه فى استشهاد أبنه حين أبرقه فى رسالة بدت تنساب فى لحن حزين ": لقد رأينا الأبوّة تُمتحن بالجهاد إلى درجة الشهادة، ورأينا الجهاد يُمتحن بالأبوة إلى درجة البطولة. إنني لا أعرف ماذا أقول لك؟ فلا أنا راضٍ عن كلمة عزاء أواسيك بها، فأيّ كلمة عاجزة، ولا أنا قادر على الصلاة من أجلك، فصلاتك أقرب إلى عرش الله من أيّ قول أو همس يصدر عني أو عن غيري "..........
كان ذلك فى الوقت الذى تشفى فيه بعض كتاب البترودولار فى الموت وفى المقاومه وفى حسن نصر الله ذاته ,فعبروا عن نفوس تفوح منها روائح النفايات الكريهه , وعبر هيكل عن صفاء النفس واحترام الموت وجلاله وعظمة الأستشهاد وخلوده ,لذلك كان هيكل هو الأغلى عالميا .

يرد هيكل على أستاذ التاريخ الأشهر السير ستيفن رانسيمان بأدبه الجم وشموخ تواضعه فيقول "أنك تكرمت فنسبت ما أكتبه الى علم التاريخ وهذا شرف لا أظننى أستحقه , فقد كنت وما أزال حتى الآن كاتبا صحفيا همومه كلها فى الحاضر والمستقبل وليست فى الأمس وما قبله "
فهل يعى شبابنا وكُتَبُنا حقيقة الحاضر والمستقبل فى أرث هيكل الفكرى والصحفى والسياسى والأستراتيجى , وترك التنابز والتفاخر بالألقاب وتعظيم الذات والتماهى مع الأعداء والبحث عن حصى هنا أوهناك لقذف زعمائنا الوطنيين وكُتابنا الذين يؤثرون فى التاريخ ,من أجل نهوض الأمه من كبوتها وعثرتها والتصدى للتآمر الكونى ,الصهيونى عليها وتطهيرها من جراثيم حكام الرجعيه العربيه .

*كاتب ومحامى – مصرى

حول الموقع

سام برس