بقلم/ عبدالكريم المدي
هاتفتني من محافظة عدن (الواقعة في الجنوب اليمني) بصوت مُتهدّج وأحرف مرتعشة قائلة :( المعذرة أخ عبدالكريم، أنا أمرأة عدنية أصبحتْ حياتي وجميع من يسكن هنا جحيماً لا يُطاق ومثخنة بالآهات والجراحات وأحزان الدهركلها، أرجوك اسمعني واسمح لي أن أبوح من خلالك ،وليس ضرورياً أن تذكراسمي ..أنا دائماً أتابعك وأقرأ لك وأحسُّ أنك أصدق وأقدرمن يُعبر عنّا، وأحد أجنحتنا المحلّقة في غُربتنا الوطنية،وواقعناومنفانا هذا..

بإختصار: ما حدث ويحدث اليوم في عدن ولحج ،خاصّة واليمن عامة، هو قتلٌ وحرقٌ لكل شيء في حياتنا، للمدينية والتسامح ، عمراننا يُدمّر،أرواحنا تُزهق ،قلوبنا تُحطّم ،أمننا يُسلب ،حرّيتنا تُصادر، كُلُّنا مكبلين ومخطوفين)

أقرُّ لكم أن صوتها الحزين ومنطقها السليم صعقني كثيراً ، وشعرتُ أمام حُسن ظنّها بي بعجز شديد عن عمل أيّ شيء حيالها وحيال الملايين من اليمنيين ، وأنا واحد منهم ،كانت تلك المرأة المجروحة،تتحدّث بطريقة تكاد أن تُفتّت الصخور، لدرجة أنه يخال لي مع كل حرف تنطقه بأن عاصفة ورياحاً عاتية تأخذني إلى هاوية سحيقة من الحزن والأسى ،وهذا الشعور بالطبع ،يحدث جرّاء حديث أمرأة واحدة عن دوائر الكوارث التي تتسع كل يوم في بلادها ومدينتها، فما بالنا إذا تحدث بصوت واحد 26 مليون إنساناً في هذا البلد ومثلهم في سوريا والعراق وفلسطين وليبيا وووالخ.

لقد أخذني كلامها من نفسي،انساني ذاتي وجعل اللاشعور يغفو على سطح الوعي، وضعتني ،بكل ما في الكلمة من معنى، أمام قاضي محكمة التاريخ والأخلاق والغيرة، الذي أحسست أمامه بذنب كبيروتناقضات لا حصر لها، أحسستُ إنني طفل كبير وتارة كهل بهيئة طفل، وقفتُ متخشّباً ،غير قادر في الرد على عريضة الإتهام التي تُوجه لي ولملايين اليمنين ،حائراً هل أهدىء من مأساتها وإرتيابها، أم من صدمتي وحزني ،عشتُ بحقّ،وما زلتُ،أصعب لحظات عمري، مشتتاً تتوزّعني المنافي.

ذكرتْ لي بنت عدن، قصصاً، أوقُلّ واقعاً من زمن ما بعد إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، والذي يُعتبر بالنسبة لها ( الزمن الجميل) موضحة بأنهم كانوا ينظرون كل صباح ومساء لمعسكريّ بدر وصلاح الدين في المدينة ومع كل نظرة تمتلء قلوبهم ونفوسهم بالأمن والطمأنينة التلقائية..

واضافت : كانت الحياة الصاخبة بالحركة والتعاييش في عدن تمنحنا طعماً ومعنى مختلفين ، وكان أفراد الشرطة الرسمية في الشوارع يعطونا الثقة بالذات وبالمؤسسات وبحقنا في التحرك والتعبير،لم يعترضنا يوماً أحد ولم يُلاحقنايوماً أحد ولم يخيفنا أو يرهبنا أي شيء ،لم نُفكّر أبداً أننا يُمكن أن نكون مهددين بالخطف، أوالقتل بدم بارد ، ولم نتوقع يوماً أن بيوتنا ستتعرّض للاقتحامات ، سواء الليلية، أوفي عزّ الظهر،وكلها خارج القانون ومن قِبل عصابات ،ولم يخطر على بالنا – أيضا- أن أعراضنا ستُنتهك في أي لحظة كما يحدث اليوم، وأن عدن ولحج وغيرها ستتحول إلى أوكار للعصابات والجماعات الإرهابية وثكنات لجيوش ومرتزقة من أكثر من بلد أجنبي.
كانت تُنشرُ شكاوى أو مناشدات لمواطنين أو موظفين في إحدى الصُّحف كـ ( الأيام – الثورة – 14 أكتوبر ) و غيرها، وبعد نشرها في نفس اليوم يتصلون من مكتب المحافظ أو من الجهة المعينة، بمعنى أنه يحصل تجاوب وتفاعل مع ما يُنشر ،أياً كان نوعه،أومدى جديته وإلتزامه في حل هذه المشكلةأو تلك، لكنه كان يُحسسنا أن هناك دولة وسلطة..

ثم عرجت في حديثها إلى عدة محطات ومنها – حد وصفها – إن الرئيس السابق علي عبدالله صالح كان يزور عدن، ويقوم بجولات في الشوارع العامة والأسواق والشواطىء ومختلف الأماكن، وفيها يتوقف أمام كبار السن والشباب والعمال والموظفين والأطفال يتحدث معهم ويستمع لهم ، وتابعت : وكانت أعلام الجمهورية اليمنية التي تُرفع وتُوزّع بكثرة في المناسبات الوطنية ومعها صورالرئيس، تُعطي الناس شعوراً وإحساساً جميلين، بوجود دولة،حتى انك تجد نفسك منساقاً معها وبحماس لتجسيد وتعزيز الإنتماء للبلد وللمؤسسات وللفكرة العامة والفضاء الوطني ، تعيش أحلاماً وطموحات كثيرة ، من ضمنها أحلام وطموحات التغيير، لكن الإيجابي البنّاء،وليس التدميري الكاريثي.

لقد ادخلني حديثها في بحر لا شاطىء له ،تأملت تالياً بشيء من التركيز ، في مضامين كلامها ووجدتُ بأننا في اليمن وسوريا وليبيا والعراق ، صرنا حقا ،دولا بلادولة،وشعوبا بلا حكومات، كأننا قطيع شارد في برية الضياع ،وأمام هذا الإنهيار المخيف لكل شيء ،يظل الكلام قاصرا ، مهما قلنا: إن واقعنا مرّومحبط ومستقبلنا مجهول، قاتم.

حاولنا بجهود فردية، عشوائية، وأحيانا نخبوية محدودة أن نقفز إلى الأمام ونهرب من هذه المآلات والنتائج ،غير أنها ظلت جهودا طفولية مرتبكة سريعاً ما خسرت بضربات خاطفة ومتعددة من زبائن الفوضى والمناطقية والعمالة المرئيين وغير المرئيين .

لقد صرنا على يقين بأن التفكير الديني ، الطائفي ، المناطقي، السياسي ،ومعه الإقصاء الوطني والسلوك الإقليمي والدولي الذي يُمارس في شعوبنا على نطاق واسع لن يساعد في الوصول إلى حالة من الاستقرار المضبوط بتوافق حسّاس يُمكنّا من إستعادة شيء من الدولة والحكومة الوطنية التي أسقطت هنا وهناك في العام 2011وما تلاه ، ومن ثم الدخول إلى فضاء الشراكة ووأد الخلافات والتهيئة لميلاد جديد من البناء والسلام والحرية بمفهومها الشامل الذي لايُصبح بدونه الإنسان إنسانا موجودا .

لقد سلّعنا المفاهيم والقيم والشعارات ووضعناها في مزادات التفسُّخ الذي يُلغي الإنسان وشروط حياته وإنسانيته، والذي يقود بالضرورة إلى أننا نُصبح جميعنا خونة،وما خيانة وخذلان هذه الفتاة العدنية اليمنية، ومعها الفتاة الحلبية والمصراتية والبغدادية والتعزية ، إلا أحد الأمثلة على ذلك .

الكل خان ،إما من خلال صمتنا وسلبيتنا ، أومساهماتنا في تبرير الفساد وتمكين الفوضى ،وصولا إلى الخروج عن الثوابت والتأسيس لثقافة القتل والذبح والنهب وإحلال الظلم والجور المطلقين محلها.
عفواً أضيف: من موقف أخلاقي ،يجب علينا جميعا أن نعترف بأننا نُمارس الخيانة والخذلان تجاه أنفسنا وشعوبنا ونساءنا وأطفالنا وأمننا

ومستقبلنا،،وهنا أتذكر أنني قرأتُ في إحدى المرات عدة حقائق عن خيانة الأوطان ،التي لا تقتصرعلى من يتلقى الأموال من
الخارج ويُسهّل دخول جحافل الغزاة والمحتلين والإرهابين لبلاده ، أويعطي الإحداثيات ويُسرّب المعلومات،إنما هي أشمل من ذلك بكثير ،فالخائن ، مثلا، هو كل فرد في المجتمع لا يُؤدي عمله ورسالته في وطنه بضميرحي وإخلاص ونزاهة.

ختاما: تأملوا ما قاله الأستاذ محمد حسنين هيكل في حديثه عن اليمن وسوريا في أوج ما يُسمى بثورات الربيع العربي :(التهويل أكبرمن الحقائق،وأنا من الذين يخشون حدوث فراغ استراتيجي كامل في المشرق يمتدُّ من شرق العراق إلى شاطىء المتوسط )

مؤكدا- في إشارة واضحة منه للدورالتدميري الذي تتعرّضُ له مجتمعاتنا على ايدي أنظمة كالنظام السعودي – بأنه يسمع عدة مرات وزيرخارجية الرياض يتكلم ،ويغمض عينه فيُخيّل له إن الصوت ليس لسيد محافظ من السعودية،ولكنه لرمز الثورة العالمية (آرنستو جيفارا )

أما بنت عدن النبيلة التي هاتفتني ، لا أستطيع القول عنها إلى أنها اغرقتني بمشاعر الخذلان وأغرقت معي هذه الأمة وعلى رأسها أمراء الحروب والنفط والفتن بالخزي والعار،وجعلتنا نعقد مقارنة سريعة بين المرأة المسلمة التي اطلقت صرختها المدوية من عمورية .. (وااااامعتصمااااااااه) ، وبين صرخة أمرأة عدن والقدس وغزة وحلب والرقة وسرت والموصل وغيرها…ومن هو الشخص والعقل والضمير الذي تلقى صرخة عمّورية ومن تلقى وستلقى صرخات عدن وغيرها من مدن العروبة التي تصرخ كل يوم ألف ألف مرة ..
كاتب يمني
نقلا عن رأي اليوم

حول الموقع

سام برس