نور المصري
جمعتني الدنيا في أميركا بطالبة مبتعثة ذي إعاقة بصرية أو بالأحرى لديها كف بصر تام. لقاؤنا الأول كان في شقتي، و أتت لتسكن معي و نكون كالعائلة الصغيرة نحِنُّ على بعضنا في الغربة. في اللقاء الأول انتابني خليط من مشاعر الرهبة و الحيرة والشفقة والمسؤولية التي اختارني رب العباد لحملها لأكون لها السند و المعين بإذن الله تعالى. كنت أضع رأسي على وسادتي و في كل ليلة أسأل نفسي كيف أتعامل مع صديقتي الجديدة فلابد أنها تختلف نفسياً و جسدياً عن غيرها من الناس. جعلت هذه الفكره تسيطر علي بحكم مجالي المهني كون أني أخصائية علاج طبيعي و تعاملت كثيراً مع من لديهم إعاقات جسدية بسبب الشلل الدماغي و إصابات العمود الفقري و التوحد و غيرها من الإعاقات. لكن تعاملي مع المرضى كان في فترة إعادة تأهيلهم و في أسوأ حالاتهم المعنوية و الصحية بالإضافة أنني لم أتعامل من قبل مع شخص لديه كف بصر. للأسف فإن شعوبنا العربية تتعامل مع ذوي الإعاقة أياً كان نوع الإعاقة بنوع من الإهمال و اللامبالاة و الشفقة. حتى أن والدي الطفل من ذوي الإعاقة لديهم مفهوم سلبي و قاصر و هو "إبني عاجز..إبنتي عاجزة" و كأن مصطلح (الإعاقة=العجز و لا يرجى منه نفعاً)!! وسبحان الله، فكون أني طالبة و لدي التزاماتي الدراسية فلم يكن لدي الوقت لأخدم صديقتي و أنفذ احتياجاتها، فالفكرة مرفوضة لأن أعباء الدراسة و الإغتراب كبيرة. في بداية الأمر كنت أنا من ينظف و يحضر الطعام و يخرج لشراء حاجات البيت، و لكن وجدتني غير قادرة على الاستمرار بنفس الأسلوب. لا ألوم صديقتي فقد نشأت على أسلوب الشفقة و أوامرها مستجابة في بيت والدينها حفظهما الله، لكنني نشأت في بيت يعمل فيه الصغير قبل الكبير بناءً على الحكمة التي تقول "يد على يد رحمة"، و " يد واحدة لا تصفق". ما كان مني إلا أن قررت التحدث مع صديقتي بكل انفتاح و وضوح و وضعت جدولاً للأعمال المنزلية في التنظيف و التكنيس...الخ. و أقول لكم على لسان صديقتي فقد كان التنظيف عملية شاقة و تأخذ الكثير من وقتها، لكن و بعد تدريب...نعم لقد استطاعت الاعتماد على نفسها في موضوع التنظيف، فالأمر لا يحتاج أكثر من "فرصة و ثقة". أما شراء مستلزمات المنزل فلي في ذلك وقفة. كنت أشتري حوائجي و حوائجها معاً دون أي مبادرة منها بناءً على نمط حياتها السابق قبل الابتعاث. لكني أعلنت الهجوم المشاكس على صديقتي و استخدمت أسلوب الإجبار الإيجابي على تعلم نواحي الحياة. فالعلم لا يقتصر على تلقين المواد الدراسية و إنما الحياة كلها علوم و معارف يكتسبها الإنسان من التجربة. قلت لصديقتي كلٌ منا ستشتري حوائجها بنفسها! بانت علامات الحيرة و التفكير و هاجس الخوف من المحيط الخارجي تنسكب في آنٍ واحد على صديقتي. و بعد نفاذ المؤن ما كان منها إلا و أن لبست ثيابها و همّت نحو الباب. خرجت صديقتي لتشتري حوائجها و بدأت أؤنب نفسي على قسوتها. تأخرت، فذهبت أبحث عنها في المتجر..لا ترد على اتصالاتي الهاتفية. قررت العودة إلي البيت و كلي قلق و يأس من طريقة تعاطيي مع الموقف. عدت البيت فوجدتها محملة بأكياس الحوائج. فرحت لصديقتي لأنها تغلبت على هاجس الخوف و المستحيل و فرحت لنفسي لأنني أجبرتها على تعلم شيء لم تعتد فعله مسبقاً و سينفعها في حياتها. فرحت عندما عادت البيت تسرد لي تسلسل الأحداث في المتجر و كأنها أسطورة سيخلدها التاريخ. في أثناء زيارتها للمتجر تعلمت صديقتي أن الناس طيبون يهرعون لمساعدتها تطوعاً منهم، كما تعلمت أن كونها ذو إعاقة فيحق لها طلب المساعدة في التسوق من قسم خدمة الزبائن داخل المتجر وغيرها الكثير من الدروس التي تعلمتها صديقتي في المعاملات البنكية و التنقل و ركوب المواصلات العامة و استخدام الحاسوب و الأجهزة المساندة و التحصيل العلمي حتى باتت تتفوق على كثير من زملائها في الفصل لتحصل على الجوائز من الجامعة كحصولها على "جائزة الطالب الملهم"، و غير ذلك من الإنجازات التي ستسطرها بجهدها و مثابرتها و إصرارها على إثبات ذاتها و وضع بصمتها في المجتمع. في مقابل ذلك فقد تعلمت أنا الكثير. تعلمت أنه على الرغم من تهميش الأشخاص ذوي الإعاقة إلا أن لديهم ينبوع من الطاقات الدفينة و عقول مبدعة يجب استغلالها. تعلمت أن لكل إنسانٍ مدخلٌ للتعامل معه، و من الخطأ أن نحكم مسبقاً على هذه الفئة من الناس بأنهم عاجزون. علينا أن نفهمهم أولاً كل على حدى و نقرر امكانياتهم بناءً على تعاملنا معهم و ليس بناءً على اصدار أحكام مسبقة و من ثم نستمتع و نفرح بالمنتجات. فالمعادلة هي: تقييم القدرات ثم المدخلات (تحفيز، تشجيع، إجبار إيجابي) ثم المعطيات (نتائج بنّاءة) و أركز أن تكون المدخلات إيجابية لننعم بمعطيات بناءة. صديقتي الحبيبة و كل أمثالها و مثيلاتها المثابرين من ذوي الإعاقة و الذين يسعون لإثبات وجودهم و وضع بصمتهم كلي فخر بكم.

حول الموقع

سام برس