بقلم/د. خير الدين حسيب
تبقى المواجهات المستمرة بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال حتى كتابة هذه السطور (صباح الجمعة في ٢١ / ٧/ ٢٠١٧ ) واحدة من أهم المواجهات التي خاضها الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال منذ بداية تنفيذ المشروع الصهيوني في مطلع القرن الماضي، ولا سيَّما بعد استكمال احتلال كل فلسطين وعاصمتها القدس قبل ٥٠ عاماً.

هذه المواجهات التي انطلقت في محيط المسجد الأقصى في إثر العملية الفدائية التي نفذها شبان ثلاثة من عائلة واحدة (الجبارين)، ومن قرية أم الفحم الواقعة داخل الخط الأخضر، أي المناطق المغتصبة عام ١٩٤٨ ، تكمن أهميتها فيما يلي:

1 – أنها تتصاعد يوماً بعد يوم في ظل ما يراه كثيرون ظروفاً سياسية فلسطينية، وعربية، وإقليمية، غير مناسبة.

ففلسطينياً ما زالت حالة الانقسام سائدة بين رام الله وغزة، وعربياً ما زالت الدول المحورية منشغلة بحروب فيها وعليها، فيما بعض الدول الخليجية تنتقل من مواقع الصمت والعلاقات السرية إلى مواقع التطبيع والتحالف مع العدو، وإقليمياً تشتد المحاولات لتغيير طبيعة الصراع من صراع مع العدو الصهيوني إلى صراعات طائفية ومذهبية وقومية داخل القطر الواحد؛ بل داخل الإقليم.

فهذه المواجهات تأتي وكأنها سباحة عكس التيار، فيما يراهن متفائلون أن تكون بداية لإطلاق تيار جديد في فلسطين وعلى مستوى الأمة.
2 – تجري هذه المواجهات في ظل تواطؤ رسمي مريب ومعيب، وفي ظل صمت شعبي غير مسبوق أين منه حراكات شعبية كانت تشهدها الأمة في ظروف سابقة.

وإذا كان التواطؤ الرسمي العربي ليس جديداً، وقد أخذ في السنوات الأخيرة بعداً خطيراً ولا سيَّما في قمة البحر الميت في آذار/مارس 2017 (حيث كان الحديث صريحاً عن »مصالحة تاريخية « مع الكيان الصهيوني، فيما استمر الحديث عن رفض صريح لمصالحات داخل الاقطار العربية أو على مستوى الأمة والإقليم)، فإن الجديد اليوم هو في غياب الشارع العربي، ما عدا استثناءات في تونس والمغرب ولبنان واليمن، من مواكبة ما يجري من مواجهات في محيط الأقصى، بما يوحي أن ما جرى في المنطقة من فتن وحروب وتحريض عنصري ومذهبي قد نجح في شل حركة الشارع العربي والإسلامي.

هنا لا بد من الإشارة إلى أن من أهم أسباب هذا التراجع المخيف في دور الحركة الشعبية العربية هو انعكاس الانقسام الفلسطيني وتباين المواقف في ما يسمى »الربيع العربي « السائد على العلاقات بين التيارات الكبرى للأمة، التي كان التلاقي بينها على مدى العقدين الماضيين سبباً رئيسياً لاندلاع مسيرات كبرى في العديد من العواصم العربية، ولا سيَّما في كل المواجهات والحروب التي شهدتها فلسطين والعراق ولبنان.

3 – تأتي هذه المواجهات، وفي محيط المسجد الأقصى (الذي أغلقته سلطات الاحتلال للمرة الأولى منذ احتلاله في حزيران/يونيو عام ١٩٦٧ ) لتربك مشروعاً إقليمياً ودولياً أتى به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الرياض ليجتمع مع حوالى خمسين من رؤساء دول عربية وإسلامية وعنوانه قيام »حلف عربي – إسلامي – إسرائيلي – أمريكي « يسعى إلى تصفية القضية الفلسطينية ووصم المقاومة بالإرهاب.

فكيف يمكن لحاكم عربي أو مسلم أن يقيم حلفاً مع تل أبيب فيما قواتها تغلق أبواب الأقصى في القدس »أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين «، وكيف يمكن لهم أن يتجهوا نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني فيما جيش هذا الكيان مندفع في انتهاك القدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية.

4 – أكدت هذه المواجهات الخطرة وحدة الشعب الفلسطيني في كل مناطق وجوده، داخل فلسطين وخارجها/رغم الانقسام الطاغي على سطح العلاقة بين القيادات، وهو ما يضع هذه القيادات أمام احتمالين لا ثالث لهما: إما إنهاء الانقسام وآثاره وتقديم التنازلات الضرورية لتحقيقه، وإما أفول دور هذه القيادات وتراجع مكانتها لدى شعبها.

من هنا يبدو الظرف مناسباً لضغط شعبي، فلسطيني وعربي وإسلامي، لتحقيق المصالحة الوطنية.

5 – أكدت هذه المواجهات أهمية فتح نقاش جدي بين تيارات الأمة وقواها الرئيسية يعيد تصويب برامجها وأولوياتها نحو ما يوحد بين طاقاتها وجهودها باتجاه التشديد على أولوية الصراع مع المشروع الصهيوني – الاستعماري، بكل تجلياته، ولا سيّما تلك المتمثلة باحتلال الأرض حيثما يتاح احتلالها، أو باحتلال الإرادة على امتداد الأمة للوصول إلى تدمير المجتمعات والدول والجيوش ولا سيَّما دول الطوق العربية حول فلسطين المحتلة.

وهذا ما نعتقد أن المؤتمرات والاتحادات والمنظمات ومراكز الأبحاث العربية مدعوة للانكباب على دراسته.

6 – تأكيد ضرورة مواكبة مواجهات الأقصى مع الاحتلال بدعم كل المبادرات الشعبية، العربية والدولية، الجارية حالياً من أجل مقاطعة الكيان الصهيوني وداعميه والمتعاملين معه، كما من أجل قطع العلاقات العربية، العلنية والسرية، مع الكيان الصهيوني، وإلغاء كل اتفاقيات الصلح المنفرد معه، وطرد سفرائه من العواصم العربية والإسلامية وإغلاق كل مكاتب الاتصال الإسرائيلي الموجودة في غير عاصمة عربية.

7 – التشديد على أن المقاومة، التي كانت وستبقى السلاح الأمضى لمواجهة الاحتلال، ولعل مجيء مواجهات الأقصى متزامنة مع الذكرى الحادية عشرة لحرب تموز/يوليو العدوانية على لبنان، ليؤكد أهمية المقاومة، كخيار وثقافة ونهج، في مواجهة العدوان والاحتلال.

9 – التأكيد أن الرد على إغلاق أبواب المسجد الأقصى يكون بإغلاق أبواب الفتنة المشتعلة في الكثير من أقطار الأمة، عبر مصالحات تاريخية تقوم على إسقاط منطق إلغاء الآخر أو استبعاده أو اجتثاثه… فكل إغلاق لأبواب الفتنة هو فتح لأبواب المسجد الأقصى، لأبواب فلسطين بأسرها؛ وفي المقابل، كل انغماس في حروب الفتنة وخطابها ومنطقها هو مساهمة في إغلاق أبواب الأقصى، بل أبواب المستقبل أمام شعب فلسطين والأمة العربية.

10 – كشفت هذه المواجهات المتواصلة عن جوانب خلل في البيئة الداخلية للنظام
العنصري الصهيوني الذي بدأت تهتز الركائز التي قام عليها قبل سبعة عقود؛ فأمن هذا الكيان الذي كان يتباهى به، بات مهدداً من جنوب فلسطين (غزة) ومن شمال فلسطين (جنوب لبنان) وفي الداخل (الانتفاضة الشبابية المستمرة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2015 ).
كما أن الهجرة المعاكسة من الكيان تفوق الهجرة إليه، والراغبين في الهجرة من الكيان يتزايدون يوماً بعد يوم، وفكرة »إسرائيل الكبرى « من الفرات إلى النيل تتراجع أمام اضطرار العدو للانسحاب من أراض عربية احتلها في فلسطين ومصر والجولان وجنوب لبنان؛ أما خداع الرأي العام الدولي »بعدالة « المشروع الصهيوني فقد بدأ يواجه تحولات هامة ولا سيَّما في المجتمعات الأوروبية والأمريكية المعروفة تقليدياً بتعاطفها مع الكيان الصهيوني، التي بدأت تدرك عدالة القضية الفلسطينية.

تبقى الركيزة الكبرى الباقية، دون اهتزاز يذكر، التي يعتمد عليها الكيان، وهي النظام الرسمي العربي الذي انتقل أبرز أركانه من العجز والصمت إلى التواطؤ والتحالف مع الكيان، وهو أمر بات يتباهى به أركان العدو في الحديث عن »إنجازاتهم

11 – تأتي مواجهات الأقصى أيضاً في إطار تحولات استراتيجية مهمة لمصلحة ما يطلق عليه اسم »محور المقاومة «، حيث باتت احتمالات وصول قوى هذا المحور إلى جبهة الجولان نفسها، التي يثبت أهلها كل يوم عمق انتمائهم العربي والسوري الرافض لكل قوانين العدو بالضم والإلحاق، وهو أمر يضع الكيان الصهيوني أمام جبهة رابعة غير جبهات الداخل الفلسطيني وغزة وجنوب لبنان.

أخيراً، مهما أسفرت عنه نتائج هذه المواجهات من نتائج عملية فإنها بلا شك قد أدخلت القضية الفلسطينية إلى مرحلة جديدة بأبعادها الداخلية والعربية والإسلامية؛ حتى يمكن القول “إن ما بعد مواجهات الأقصى غير ما قبلها «، كما أكدت حيوية هذه القضية أن فلسطين عصية بشعبها على كل أشكال التصفية، وأنها باتت الكاشف لكل خلل في البنى والعلاقات داخل مجتمعاتنا من جهة، ولكل خطاب يعتمد النفاق والازدواجية إلى أي مدرسة فكرية أو عقائدية انتمى. إن الوحدويين النهضويين العرب مدعوون، أكثر من أي وقت مضى، إلى اغتنام هذه المواجهات الشجاعة والمستمرة في الأقصى من أجل إعادة الاعتبار لوحدة الأمة بكل تياراتها واعتبار »أن فلسطين طريق للوحدة والوحدة طريق فلسطين “.
مركز دراسات الوحدة العربية

نقلاً عن رأي اليوم

حول الموقع

سام برس