بقلم / يونس الحكيم
يبدو أن اليمن الذي كان يوصف عبر الأزمنة الغابرة بالسعيد قد غادرته السعادة مطلقاً، ولم تعد تجليات الحاضر بالنسبة لأبنائه سوى محطات لاستلهام الماضي، إمعاناً في استنساخ تجاربه.

 فقد باتت حضاراته العريقة التي لطالما تغنى بها أبناؤه في عداد المندثرين. كيف لا وقد غدت جل آثاره التي كانت محل فخر وإعجاب العالم، وإحدى الوسائل الناجعة لجلب السياح ورفد الإقتصاد الوطني بالعملة الصعبة، عرضة إما للنهب والتهريب، أو القصف والتخريب، ولم يعد يجمعنا به سوى المآسي والآلام؟ حتى عاداتنا الحميدة وسجايانا الفريدة التي ورثناها من الأجداد وظلت مفخرتنا في كل العصور، صارت في مرتع النسيان، وغدت فضلة تدوسها الأقدام.

فنسيجنا الإجتماعي ممزق من الوريد إلى الوريد، ومعتقداتنا المذهبية في تعايش طريد، وهناك من يسعى إلى زرع الطائفية الدخيلة على مجتمعنا بمحاريث أجنبية وبفكر جديد، ومآسينا كل يوم تزيد. ولم يعد لدينا من شيء نملكه أو ندخره سوى الحنين إلى الماضي الجميل؛ فهو الحالة الجارفة الوحيدة التي ما زلنا نعشقها. ولا غرابة في أن نكون الشعب الأوحد الذي قلما تجد له نظيراً ما زال يحن إلى الماضي بحثاً عن المفقود، بيد أن معظم شعوب العالم تتطلع صوب المستقبل طلباً للتقدم والرقي. فلا تكاد تسمع بيمني قد بلغ من العمر عتياً حينما يسترسل في الماضي وذكرياته، أو يراد له ذكر محطة من محطات حياته، دون أن تتخلل حديثه آهات وزفرات متعاقبة، خاصة عندما يكون حديثه خلال فترة حكم الرئيس الحمدي، التي مثلت في نظر اليمنيين محطة فارقة في حياتهم حافلة بالعطاء والانجاز.

أعيدوا ماضينا بنقاوة فطرته وسلامة سريرته

وهنا يستحضرني مشهد كان قد دونه الأستاذ القدير، عبد الرحمن بجاش، في مقال له في صحيفة "الثورة"، قبل ثلاث سنوات تقريباً. لا أتذكر عنوانه بالضبط، لكنه يدور حول رد امرأة مسنة على سؤاله، بعدما رآها تحمل بيدها صورة للرئيس الشهيد، إبراهيم الحمدي، بقوله "الناس تناسوا الحمدي وأنت ما زلتي تذكرينه بعد هذا الوقت"، فكان ردها بعبارة بسيطة، لكنها تستحق أن تكتب بماء الذهب بقولها: "يا ولدي لو أحسنوا اللي حكمونا بعده ما ذكرناه". هي عبارة تستحق الذكر والإشادة وأن نتوقف عندها. بالفعل، لو أحسن من تناوبوا على حكم اليمن بعده، وسلكوا مسلكه، وحققوا للشعب والوطن ولو الشيء اليسير لما تردد ذكر الحمدي ومنجزاته على لسان أحد، ولطويت صفحته تماماً كما طويت صفحات من قبله، لكنه ما زال حاضراً وبقوة في قلوب وعقول اليمنيين، حتى الذين لم يشهدوا عهده.

خلاصة ما يمكننا قوله، وما يجب على الجميع إدراكه، هو أن مشاعر الحنين إلى الماضي، أو الرجوع إليه، "النوستالجيا" التي غذت حالة شعورية جارفة لدى الشعب اليمني المكلوم، قد تحوله من حالته تلك إلى أن يقول لساسته وصناع قراره: أعيدوا ماضينا بنقاوة فطرته وسلامة سريرته، أعيدوا نسيجنا الإجتماعي ووحينا الثقافي وتعايشنا المذهبي وتآلفنا الأخوي، أعيدونا ولو إلى صقيع الجهل لنحلم بالمعرفة، وأعيدونا ولو إلى حياة الفقر ليعود التراحم في ما بيننا، أعيدوا عفويتنا وإنسانيتنا، أعيدوا أخلاقنا، أعيدوا مكانتا التي كنا نستحقها بين الشعوب. وإن لم تستطيعوا فعل هذا، فدعوا هذا الشعب المكلوم بما تبقى له من محاسن الأخلاق ومآثر الخصال، وما تبقى له من أمان مدخرة، عله يصنع أمجاده بنفسه، كما صنعه أجداده القدماء الذين سطرهم التاريخ، ورفع في الخافقين ذكرهم.

حول الموقع

سام برس