بقلم/ علي عبيد
اعتبرت نيكي هيلي، مندوبة الولايات المتحدة لدى مجلس الأمن الدولي، يوم الاثنين الماضي، أن تصويت المجلس على مشروع قرار يدين قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إليها، إهانة لن تنساها بلدها أبداً، وقالت: «إن القدس طالما كانت أرضًا للشعب اليهودي منذ آلاف السنين».

واعتبرت المندوبة الأميركية، بعد استخدامها حق النقض «الفيتو» لمنع اعتماد مشروع القرار المصري، أن العملية مثال جديد على تسبب الأمم المتحدة بالضرر أكثر مما تتسبب بما هو مفيد في التعامل مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وقالت إن بلادها استخدمت «الفيتو» دفاعاً عن دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ودورها في عملية السلام، ووصفت مشروع القرار المصري بأنه يعيق السلام!

ثم عادت يوم الخميس الماضي لتهدد المجتمع الدولي، وتتوعد الدول التي ستصوت في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد القرار الأميركي، بقطع المساعدات عنها. وقالت، على طريقة تعامل المدرسين مع الطلبة المشاغبين، إن بلادها ستكتب أسماء هذه الدول لاتخاذ إجراءات ضدها.

وكررت أن الولايات المتحدة ستتذكر هذا اليوم، وأشارت إلى أن هذا التصويت سيحدد الفرق بين كيفية نظر الأميركيين إلى الأمم المتحدة، ونظرهم إلى الدول التي لا تحترمهم في المنظمة الدولية. وأضافت: «سنتذكره حين سيطلبون منا مجدداً دفع أكبر مساهمة مالية في الأمم المتحدة، وسنتذكره حين ستطلب منا دول عدة، كما تفعل غالباً، دفع المزيد واستخدام نفوذنا لمصلحتها».

نحن نعرف الأسباب التي دعت «نيكي هيلي» لتهديد الدول التي ستصوت في الجمعية العامية للأمم المتحدة ضدها، ونعرف الأسباب التي دعتها لاستخدام «الفيتو» ضد مشروع القرار المصري، بعد أن وافق عليه أعضاء المجلس كلهم باستثناء الولايات المتحدة الأميركية بالطبع، لكننا لا نعرف السبب الذي دعاها للبحث عن مبرر لتصويتها الذي كان متوقعاً، وتحولها إلى باحثة في التاريخ، كي تخرج لنا بأن القدس كانت أرضاً للشعب اليهودي منذ آلاف السنين، متناسية، أو جاهلة، أن «اليبوسيين» الذين هاجروا من شبه الجزيرة العربية إلى بلاد الشام، هم من بنى المدينة وسكنوها في الألف الخامس قبل الميلاد.

وبما أنها قد اختارت أن تنضم إلى قائمة المؤرخين، فإننا ندعوها إلى البحث في تاريخ بلدها، لتقول لنا إن كانت أميركا أرضاً للذين يعيشون على أرضها اليوم منذ آلاف السنين، أم أن هناك شعباً سكنها قبل أن يصل كريستوفر كولومبس إليها قبل 500 عام تقريباً، وقد ظن أنه في الهند على إثر اجتيازه للمحيط الأطلسي، فأطلق على سكان الأرض التي اكتشفها اسم «الهنود الحمر» تمييزاً لهم عن سكان الهند، وأن هذا الشعب قد لاقى من ويلات الأمراض التي جلبها الأوروبيون إلى العالم الجديد ليقضوا على سكانه الأصليين، وأن الذين لم تقض عليهم الأمراض تم القضاء عليهم خلال الحروب التي خاضها ضدهم المستعمرون الأوروبيون، حتى غدا عددهم اليوم لا يتجاوز 1.5% من مجموع السكان، بعد أن كانوا هم سكان البلد الأصليين عندما وطئت رجلا كريستوفر كولومبس أرض أميركا، لتصبح أرض ميعاد لمن لم تكن لهم أرض، أو هاجروا من بلدانهم ليحتلوها ويبيدوا شعبها.

صحيح أن استخدام التاريخ لتثبيت الواقع سلاح، لكنه سلاح ذو حدين، يجرح يد صاحبه إذا كان لا يتقن استخدامه. ونعتقد أن نيكي هايلي لم تجرح يدها فقط عندما استخدمت هذا السلاح، وإنما جرحت بلدها كلها وتاريخه القائم على احتلال أرض شعب آخر وإبادته، وعلى الاستعمار الذي يمارسه بمختلف الأشكال، ومنها التهديد بقطع المساعدات، كما فعلت المندوبة الأميركية حين هددت الدول التي ستصوت في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد قرار رئيسها بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، والاعتراف بها عاصمة أبدية لإسرائيل، بتسجيل أسمائها، وتوعدتها بقطع المساعدات عنها، وعن الأمم المتحدة نفسها، في عنجهية واضحة، واستعلاء على الجميع، واستكبار توقفت عنده كل الدول، بما فيها الدول العظمى دائمة العضوية في مجلس الأمن، وصوتت ضده، لتقف الولايات المتحدة الأميركية وحدها في مواجهة العالم كله، مع الدولة الصهيونية التي حلمت بأقل من هذا، فقدمت لها «نيكي هايلي» وحكومتها أكثر مما حلمت به.

رُبّ ضارة نافعة، فقد دفع القرار والموقف الأميركي قضية القدس إلى الواجهة مرة أخرى، وأعاد تسليط الأضواء على القضية الفلسطينية بعد أن كادت تتراجع إلى الخلف، أو تراجعت فعلاً، وسط زحمة القضايا التي أصبحت تشغل العالم، والرياح التي عصفت بالعالم العربي، ومزقت كل الأشرعة، وأغرقت كل السفن في لجة الفوضى التي عمت أرجاءه وقطعت أوصاله، وكانت صناعة أميركية أعلنت عنها وزيرة الخارجية الأميركية سيئة الذكر «كونداليزا رايس» في شهر أبريل من عام 2005، وتعهدت بنشرها في العالم العربي، خلال حديث أدلت به لصحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، كشفت فيه عن نية الولايات المتحدة نشر الديمقراطية في العالم العربي، والبدء بتشكيل ما يُعرَف بالشرق الأوسط الجديد، وذلك من خلال نشر «الفوضى الخلاقة» في الشرق الأوسط عبر الإدارة الأميركية، وكانت البداية بالعراق الذي كانت قد اجتاحته القوات الأميركية، وحولته إلى ساحة للصراعات العرقية والمذهبية، ونشرت في أرجائه القتل والعنف والخراب، وكل أشكال الفوضى التي كانت مدمرة، كما أراد لها ناشروها.

لهذا نقول لنيكي ورايس وغيرهما: إن القوة قد تفرض علينا مؤقتاً واقعاً لا نريده، لكنها لا تفرض أبداً تاريخاً تريدون تزويره.

*كاتب إماراتي

حول الموقع

سام برس