بقلم/ عبد الباري عطوان
الامارات يحب ان تعتذر علنيا لتونس ونسائها لاغلاق ملف الازمة.. “النزق” الخليجي اضر بأصحابه ولا بد من نهاية له.. واليكم سردا لبعض الأمثلة التي لم نتمناها

بالكاد انتهينا من ازمة تفجرت بين الجزائر والمملكة العربية السعودية على أرضية رفع مشجعي كرة القدم صورة للعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، باعتبارهما وجهين لعملة واحدة، حتى تنفجر ازمة اكثر خطورة بين الامارات وتونس، بسبب اصدار الأولى قرارا بمنع المواطنات التونسيات من دخول أراضيها، وتطبيق هذا القرار في المطارات بطرق شرسة ومهينة، تطورت الى حالة غضب غير مسبوقة في أوساط التونسيين شعبا وحكومة.

ان تحدث أزمات في العلاقات بين الدول فهذا امر مألوف، ولكن ان تتطور هذه الازمات الى حروب إعلامية، وتصعيد حالة الكراهية المتبادلة بين الشعوب فهذا امر بات مقصورا بصورة اكبر على الشعوب والحكومات العربية من بين اقرانها في العالم.

اذا تمعنا في معظم أزمات دول الخليج سواء فيما بينها، او مع الدول والشعوب العربية، نجد هناك قاسما مشتركا، وهو “الارتباك” في إدارة معظم هذه الازمات من قبل الجانب الخليجي، وسوء في تقدير ردة فعل الطرف الآخر، او الاستهتار بها، وعدم اخذها في عين الاعتبار، مما يضاعف من خطر هذه الازمات ونتائجها، وخلق احتقانات شعبية طابعها الكراهية.

الازمة الحالية في العلاقات الإماراتية التونسية احد الامثلة على ما نقول آنفا، فالاشقاء في الامارات تلقوا معلومة استخبارية غربية تقول بأن مواطنات تونسيات تزوجن مقاتلين، او تطوعن، في صفوف “الدولة الإسلامية” يمكن ان يقدمن على “عمل إرهابي” مثل تفجير طائرة، وان هناك عدة دول يمكن ان تكون مستهدفة بهذا العمل من بينها دولة الامارات العربية المتحدة وخطوطها الجوية.

ولان دولة الامارات تضع الامن على قمة أولوياتها، باعتبارها جاذبة للاستثمارات الخارجية، وخاصة امارة دبي، وتحرص على تحصين نفسها، بالطرق كافة، في مواجهة الإرهاب، وهذا حقها، “بالغت” في اتخاذ الاحتياطات اللازمة، وأصدرت قرارا بمنع جميع التونسيات من دخول أراضيها، عازبات او متزوجات، او حتى في سن المراهقة، وجرى السماح للرجال بالدخول، ومنع زوجاتهم او بناتهم في بعض الحالات.
***
عندما نقول ان الاستهتار بردود فعل الطرف الآخر يفاقم من الازمات، فإننا نتوقف هنا عند خطأ امني ودبلوماسي ارتكبته السلطات الإماراتية، وهو عدم ابلاغها الطرف التونسي بقرارها هذا الذي يمس مواطنيها، والتنسيق مسبقا بين السلطات الأمنية في هذا الاطار، مثلما اكد السيد خميس الجهناوي، وزير الخارجية التونسي، ولو حدث هذا التنسيق لما تفاقمت الازمة ووصلت الى ما وصلت اليه من نتائج كارثية على علاقات البلدين والشعبين.

وما زاد الطين بله، ان دولة الامارات التزمت الغموض والصمت، ولم تقدم أي سبب مقنع لتبرير قرارها المهين في حق المواطنات التونسيات، الامر الذي فتح أبواب التكهنات على مصراعيها، ووصل الامر الى درجة المس بأعراض الشقيقات التونسيات بطريقة تنطوي على الكثير من الفحش، ولم تستدرك السلطات الإماراتية هذا الخطأ الا بعد ما يقرب اليومين، من خلال تغريدة على “التويتر” للدكتور أنور قرقاش، وزير الدولة للشؤون الخارجية، قال فيها ان أسباب حظر دخول التونسيات ارض بلاده يعود لاسباب امنية، ودون أي توضيح شاف وشفاف.

من حق الحكومة التونسية ان تغضب، وان ترد على هذه الاهانات بمنع جميع طائرات شركات الملاحة الجوية الإماراتية بالهبوط في مطاراتها تجاوبا مع الضغوط الشعبية، ومن واجب السلطات الإماراتية ان تعتذر لها، تماما مثلما فعلت الحكومة الجزائرية للمملكة العربية السعودية وعاهلها، بسبب الصورة التي رفعها المشجعون الكرويون، لا تقارن مطلقا بنظيرتها الإماراتية التونسية، ولا يتسع المجال هنا للاطناب.

لا نتردد مطلقا في القول بأن هناك حالة من “النزق” تتسم بها القرارات والمواقف الخليجية هذه الأيام، خاصة عندما يتعلق الامر بالشعوب العربية الفقيرة وغير النفطية، او حتى الحكومات أيضا، وهذا “النزق” لم يظهر على السطح بقوة الا في السنوات العشر الماضية، وبعد تدمير العراق، واطاحة الأنظمة في ليبيا واليمن، ومحاولة تفتيت سورية، والسنوات الدموية العشر السوداء في الجزائر.

المملكة العربية السعودية مارست هذا “النزق” وما زالت، عدة مرات ابرزها عندما أوقفت في تشرين الأول (أكتوبر) 2016، العمل باتفاق مد مصر بـ700 الف طن من النفط شهريا لمدة خمس سنوات جرى التوقيع عليه اثناء زيارة العاهل السعودي لمصر في نيسان (ابريل) في العام نفسه، نتيجة غضب الصحافة المصرية من طريقة التعامل السعودي الفوقية مع الحكومة المصرية، وجرى تنفيذ هذا القرار فورا ودون إعطاء السلطات المصرية الوقت الكاف للبحث عن البدائل.

قرار “نزق” آخر بأعطاء القطريين المقيمين في دول الخليج امرا بالمغادرة خلال أسبوعين، وحتى لو أدى ذلك الى التفريق بين الزوج وزوجته، وجرى اغلاق الحدود فورا مما أدى الى نقل الابل المحصورة خلفها بالطائرات الى دولة قطر.

وقطر نفسها ليست بريئة من هذا التوصيف، فقد انفقت المليارات للإطاحة بالنظامين الليبي والسوري، للانتقام من نظامي البلدين، وسلحت المعارضة، وشكلت غرف “ازمة”، وهيئات معارضة سورية، وهناك أسباب ومبررات معلنة، وأخرى شخصية غير معلنة.

قرار “نزق” ثالث او رابع، بتجميد عضوية سورية في الجامعة العربية، وقبلها ليبيا، وحذف جميع قنواتها من القمر الصناعي “عرب سات”، واجلاس ممثلي المعارضة على مقاعدهما، وقبل ذلك محاصرة العراق واغلاق جميع المنافذ الحدودية معه.

ولا ننسى في هذه العجالة اكثر القرارات “النزقة” وغير المدروسة والكارثية، وهو قرار شن الحرب في اليمن، التي تقف على أبواب عامها الرابع، وباتت نزيفا بشريا وماليا وعسكريا وسياسيا متواصلا بلا نهاية في الأفق.

حتى المواطنين العاديين لم يسلموا من هذه القرارات “النزقة”، فالمطربة “أحلام” جرى طردها من برنامج لانها نشرت تغريدة “غامضة” جرى تفسيرها على انها متعاطفة مع قطر، بلد زوجها وأولادها، وعوملت بقسوة غير مسبوقة، وهي ليست جنرالا، او زعيمة لحزب سياسي، وتكرر الشيء نفسه مع مذيعة اردنية فصلتها محطتهاMBC من عملها لانها انتقدت التخاذل العربي تجاه القدس وقرار الرئيس ترامب بتهويدها، وجرى تفسيرها، أي التغريدة، بأنها إساءة للسعودية، رغم انها لم تذكر الأخيرة مطلقا، ولجأت الى التعميم، ولكنهم يعتقدون انهم اعلم بالسرائر.

“النزق” نفسه تجلى في أوضح صوره باستدعاء، ومن ثم، احتجاز، رئيس وزراء دولة لبنان، واجباره على قراءة نص استقالته على الهواء، وتكرار الامر نفسه مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ولو كان يحمل الجنسية السعودية لظل حتى كتابة هذه السطور في الرياض، على غرار ما حدث للملياردير صبيح المصري الذي اشترى حريته ببضعة مليارات.

المشكلة ان هذا “النزق” الذي ليس له أي مكان في سلوكيات الدول، والحضارية منها على وجه الخصوص، بات مرفوقا باتهامات بالارتزاق لكل شخص ينتقده حتى من قبيل المحبة والإخلاص والرغبة في الإصلاح او التنبيه للأخطاء على الأقل، وهذه التهم لا توجه الا للمواطنين العرب العاملين في منطقة الخليج، الذين يطردون من أعمالهم، ومن البلاد بسبب مخالفة مرور في بعض الأحيان، ويواجهون عبئا ثقيلا من الرسوم والغرامات بهدف تطفيشهم، ونعترف ان هناك شرفاء خليجيون يعارضون هذه الممارسات بقوة وشجاعة.

في الدول الغربية الاستعمارية “الكافرة” التي تسود فيها الديمقراطية، ودولة القانون، هناك عشرة ملايين مهاجر عربي يذهبون الى المستشفيات والمدارس والاعمال نفسها مثلهم مثل المواطنين الآخرين، وعندما يقدم بعضهم على اعمال إرهابية يبادر السياسيون وأجهزة الاعلام للتأكيد على انها اعمال فردية، ويدافعون عن الجاليات الإسلامية والعربية ويذكرون مأثرها في التعايش والمساهمات في دعم الاقتصاد، لان هؤلاء يحترمون قوانينهم، أولا، ويريدون الامن والاستقرار لبلدانهم، وتعميق أسس التعايش فيها.
***
لا نعرف متى سيتم تطويق هذه الازمة بين الامارات وتونس، وهي ستنتهي حتما مثل كل الازمات الأخرى، ولكنها ستترك ندوبا عميقة في جسم العلاقات بين البلدين، وخاصة انها شملت موضوعا حساسا وهو المرأة في تونس التي تعتبر الأقوى شخصية وحقوقا من بين جميع اقرانها في العالم الإسلامي.

الرئيس الباجي قايد السبسي قال لي شخصيا انه مدين للمرأة التونسية في وصوله الى قصر قرطاج، فقد صوتت له مليون ومائتي الف امرأة من مجموع مليون وثمانمئة الف صوت في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، أي اكثر من 60 بالمئة من الأصوات.

صحيح ان هناك تقارير تقول ان حوالي الف امرأة تونسية انضمت الى “الدولة الإسلامية”، سواء تطوعا او عبر الزواج من مقاتلين فيها، هناك من يخطط لتوظيف بعضهن في اعمال إرهابية، ولكن هناك في المقابل ستة ملايين امرأة تونسية معظمهن من المتعلمات والمثقفات والمهندسات والطيارات، والخبيرات، والامهات، لا يجب ان يؤخذن بجريرة هؤلاء، ويتعرض للاهانة في المطارات، فلا يمر شهر دون اتخاذ حالات طوارئ في المطارات الأوروبية بسبب معلومات عن عمليات إرهابية محتملة، وتتخذ إجراءات امنية مشددة، لكن لا يتم حظر النساء او الرجال، ومطارات الامارات تضاهي نظيراتها الغربية في كفاءتها الأمنية والعملية.

الامارات يجب ان تعتذر علنا عن خطأها وهذا لا يعيبها، بل يعزز من مكانتها، ويجب على تونس شعبا وحكومة ان تقبل هذا الاعتذار، وتغلق صفحة هذه الازمة فورا تمهيدا لعودة المياه الى مجاريها، وامتصاص كل الاضرار السبية بالتالي.

ادرك جيدا ان البعض يشحذ السنته واقلامه لتوجيه الشتائم والسباب، وهذا ليس جديدا علينا، بل ان هذا النهج انعكس سلبا على اصحابه، وجعلهم، وبلدانهم، يواجهون اكبر قدر ممكن من الكراهية في أوساط الأغلبية الساحقة من المواطنين العرب، وربما المسلمين أيضا، وحال هؤلاء كحال الاعرابي الذي قال كلمته المأثورة: “اشبعناهم شتما وفازوا بالابل”.

لا توجد هناك ابل لنفوز بها، ولكن هناك الكرامة، وعزة النفس، وقول كلمة الحق في هذا الزمن الصعب الذي انقلبت فيها المقاييس والمعادلات.

لا خير فينا ان لم نقلها، ولا خير فيكم ان لم تسمعوها.. وتعملوا بها.

نقلاً عن رأي اليوم

حول الموقع

سام برس