سام برس
.. وزِيارة أردوغان للخَرطوم تُشعِل فَتيل الصّراع على البَحر الأحمر

رأي اليوم:

ما زال قرار السلطات السودانيّة بسَحب سفيرها من القاهرة مساء الخميس لـ”التّشاور” مَثار العَديد من التساؤلات في ظِل التوتّر المُتصاعد بين البَلدين، ودُخوله مَناطق مُحرّمة من التّراشق الإعلاميّ غَير المَسبوق، خاصّةً من الجانِب المِصري الذي يَملُك إمبراطوريّاتٍ إعلاميّةٍ جَبّارة.

العلاقات السودانيّة المِصريّة لم تَكُن طبيعيّة، ناهيكَ عن أن تكون جيّدة على مَدى الثّلاثين عامًا الماضية، وبالتّحديد مُنذ مَجيء الرئيس السوداني عمر البشير إلى السّلطة عبر انقلابٍ عَسكريٍّ عام 1989 بالشّراكة مع المُفكّر الإسلاميّ السودانيّ الراحل حسن الترابي، ومجموعةٍ من الضّباط المعروفين بمُيولِهم الإسلاميّة الإخوانيّة، ووصل التأزّم إلى ذروته عندما جرى اتّهام السودان بالتورّط في مُحاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في أديس أبابا في 26 حزيران (يونيو) عام 1995، وإذا حدثت “بُقع″ انفراجيّة بين الحِين والآخر فكانت أقرب إلى السطح وليس العُمق، ولم تُعمّر طويلاً.

الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الخَرطوم يوم 24 من شهر كانون أول (ديسمبر) الماضي، والنّتائج الاستراتيجيّة “المُهمّة” التي تَمخّضت عنها، رَشّت الكثير من المِلح إلى جُرح العلاقات المُلتهب، خاصّةً اتفاقات التعاون العسكري والأمني والاقتصادي التي وقّعها الرئيس السوداني مع ضَيفِه التركي، وتَضمّنت مَنح جزيرة “سواكن” التاريخيّة الواقِعة على البحر الأحمر لتركيا لإقامة مشاريع استثماريّة سياحيّة فيها، وكذلك قاعدة عسكريّة على غِرار نَظيرتها في قطر.

تتعدّد التفسيرات حول إقدام السودان على خُطوةِ سَحب السفير، والأسباب التي تَكمُن خَلفها، ويُمكن الاجتهاد هُنا واختصارها في أربعة:

الأول: إقدام السّلطات المِصريّة على بِناء مِئة مَنزل في مثلث حلايب المُتنازع عليه، وبث تلفزيونها الرسميّ خُطبة صلاة الجمعة ألقاها وزير الأوقاف المصري محمد مختار جمعة، من مسجد التوبة وبَثْ مُقدّمة عن “مِصريّة” حلايب وشلاتين، وإنشاء سَد لتخزين مياه السيول، وميناء للصّيد في شلاتين.

الثاني: توارُد تقارير إخباريّة في وَسائِط تواصل اجتماعي وصُحف سودانيّة، تُفيد بأنّ مِصر طَلبت من أثيوبيا استبعاد السودان من المُفاوضات الخاصّة بِسَد النّهضة، واقتصارِها فَقط على الجانِبين المِصري والأثيوبي، بحُضور صندوق النقد الدولي، وقد نَفت وزارة الخارجيّة المِصريّة هذهِ التقارير.

الثالث: تصاعد الحملات الإعلاميّة المِصريّة الشّرسة ضِد السودان، والرئيس البشير تحديدًا، بعد زِيارة الرئيس أردوغان للخَرطوم، ودُخولِها مَناطق مُحرّمة، وبإيعازٍ من السلطات المِصريّة التي رَأتْ في اتفاقات التّعاون العَسكريّ والاقتصاديّ الأمنيّ التركيّة السودانيّة طَعنةً في الظّهر، والدّخول في تَرتيبات إقليميّة ضِد مِصر، وهذهِ الحَملات أزعجت الخَرطوم وقِيادتها.

الرّابع: اتّهام الرئيس البشير لمِصر علانِيةً بدَعم الحركات السودانيّة المُتمرّدة في دارفور، وتأكيده بأنّ الجيش السودانيّ غَنِم مُدرّعات ومَركبات مِصريّة استخدمها المُتمرّدون، وهي اتّهامات نَفتها مِصر أيضًا.

من الصّعب عَلينا التكهّن بنَوعيّة الرّد المِصري على القرار السوداني بسَحب السفير من القاهرة، فقد تَستدعي السّلطات المِصريّة سفيرها في الخَرطوم، وقد تُحاول امتصاص هذه الخَطوة بالصّمت، واللّجوء إلى الاتصالات الدبلوماسيّة لتَطويق الأزمة، ولكن الأمر المُؤكّد أن التأزّم في العَلاقات بين البَلدين يتّجه للتّصعيد في ظِل التّغييرات الجَذريّة في خَريطة التّحالفات السودانيّة، وخُروج الرئيس البشير من المِحور السعوديّ الإماراتيّ وعَودَتِه إلى المِحور القطريّ التركيّ.

مِصر ستكون الأكثر تضرّرًا من تَدهور العلاقات مع السودان خاصّةً في مَلف حصص مِياه نهر النيل، والأخطار التي يُشكّلها سَد النّهضة على حِصّتها بالذّات التي تُعتبر الأضخم.

المُعاهدات التي تَحكُم تَوزيع مِياه النّهر تُعطي مِصر دولة المَصب 55.8 مليار مِتر مُكعّب سَنويًّا، والسودان 18 مِليار مِتر مُكعّب من المَجموع الكُلّي للمِياه الذي يَبلغ 86 مِليار مِتر مُكعّب، مع الأخذ في الاعتبار أن عشرة مِليارات مِتر مُكعّب من المِياه تتبخّر سَنويًّا بحُكم الحَرارة.

التحالف المِصري السّوداني يُشكّل جَبهةً صَلبةً في مُواجهة المُحاولات التي تَبذُلها دُول أفريقيّة مِثل أثيوبيا التي تَأتي مِنها 85 بالمِئة من مِياه نَهر النيل، عَبر النيل الأزرق، وأوغندا (بُحيرة فيكتوريا) والكُونغو وتنزانيا من أجلِ إلغاء هذهِ المُعاهدة واستبدالِها بأُخرى تُعيد تَوزيع هذهِ الحِصص على حِساب الحِصّتين المِصريّة والسودانيّة.

تأثّر السودان بأيِّ تَوزيعٍ جديد للحِصص سَيكون أقل كثيرًا من نَظيره المِصري، لأن السودان يَتمتّع بمَصادر مِياه جوفيّة وأمطارٍ أُخرى تُقلّل من اعتمادِه على مِياه النّيل على عَكس الجار المِصري الشّمالي الذي يَعتمد اعتمادًا كُليًّا على مِياه النّيل، ليس كمَصدر للمِياه، وإنّما لتَوليد الكهرباء، مِثلما هو الحال في سَد أسوان العالي، وأي انخفاضٍ في حِصَصِه المائيّة سيَنعكِس سَلبًا على المصدرين.

مِنطقة البحر الأحمر تشهد حاليًّا حرب نُفوذ مُتصاعدة بين تركيا وإسرائيل والسعوديّة وإيران ودولة الإمارات العربيّة المتحدة، فمُعظم هذهِ الدّول أقامت قواعد عَسكريّة في جُزرِها، وتُحاول التحكّم في بابِ المَندب، وباتَت مِصر المُنشغلة بأزماتِها الاقتصاديّة، والتحدّي الذي يُشكّله سَد النّهضة الأثيوبي، والاعتماد على المُساعدات السعوديّة، ومُهادنة إسرائيل لتَقليص أخطارها في حَرب سيناء، باتَت مِصر مُقيّدةً وفي حالةٍ أقرب إلى الشّلل، حيث تَكاثر عليها الأعداء والطّامِعون.

التّقارب المِصري السوداني هو الخَيار الأفضل، الذي يحب تَعزيزه، واستمرار الخِلافات حول مَلف حلايب يُؤزّم العلاقات، ويَدفع بالسودان إلى تحالفاتٍ مع تركيا وقطر تَرى القِيادة المِصرية أنّها مُوجّهةٌ ضِدها، وهذا تَخوّفٌ يَنطوي على الكَثيرِ من الصحّة، ولكن يُمكن تَجنّبه لو جَرى اتّخاذ خَطواتٍ استباقيّة أبرزها عدم التّصعيد في قضيّة حلايب، والتوصّل إلى تفاهماتٍ، أو تَجميد الصّراعِ حَولها.

مِصر مُهدّدة في أمْنِها واستقرارِها ولُقمَة عَيشِها، وتَحتاج إلى إجراءِ مُراجَعةٍ في الكَثير من سِياساتِها، وبِما يُؤهلها لمُواجهة هذهِ التحدّيات، واستعادة مَكانتها الرياديّة والقِياديّة، أمّا كيف تكون هذهِ المراجعة ونَتائِجها وخُطَطِها المُستقبليّة فهذا مَوضوعٌ آخر.

حول الموقع

سام برس