بقلم/ مُحمَّد القعود
كان الصباح استثنائياً في نكهته وطراوته وضيائه وبهجته، وكانت المناسبة استثنائية رغم كثرة المناسبات الدعائية، لأن محورها شخصية فريدة من نوعها وجديرة بالتقدير والتكريم والاحتفاء بها وبعطاءاتها الإبداعية، كانت المناسبة تكريم الأستاذ الأديب والكاتب المبدع محمد المسَّاح، لذلك كان الصباح في ذلك اليوم مكدساً بالحب والأحباب، وثملاً بالابتهاج والفرح، وكانت قاعة بيت الثقافة محتشدة بمحبي المسَّاح الذين تقاطروا إلى القاعة منذ وقت مبكر حتى يلتقوا ويحتفوا بـ «مسَّاحهم» البسيط المضرج بهمومهم والناطق الرسمي بأحلام البسطاء ومعاناتهم، الذي جعل من «لحظته الزمنية» لحظة تواجه البؤس، ولحظة تخترق بؤرة الفساد، ولحظة ترسم الفرح، ولحظة تكشف التفاصيل الخبيئة عن أشياء كثيرة مرتبطة بحياتنا وواقعنا وآمالنا.

< وفي حميمية ذلك الصباح واحتضانه لمناسبة احتفائية استثنائية، كان الحب يهل إهلالاً، والوجوه تفيض بالبشر، والأفئدة تؤدي النشيد الإنساني لقيم الوفاء والمودة والاعتراف بأدوار وتضحيات وإسهامات وعطاءات الآخرين في صناعة الحياة وتأثيثها بالفرح والأمل والنقاء وتحقيق الطموح واجتراح المعجزات وإضافة كل ما هو جميل وبديع ومضيء ومفيد إلى أرصدة حياتنا ومسيرة هذا الوطن المتقدم بثقة وثبات نحو مستقبله الأجمل.

في ذلك الصباح تحدثوا بحب وبودّ عن «مسَّاح الأحزان» وعن إبداعه وشخصيته الودودة، فأظهروا روعة ذلك «الكائن» البسيط الممتلئ بحب الناس والحياة.

وحين جاء دورك للحديث عن رفيق عمرك وأستاذ بدايتك مع القلم وزميل المهنة والتعب والقلق كنا نعرف أنك ستتحدث كصحفي مرموق يتميز بكتاباته الصحفية المتفردة، وستقول أشياء كثيرة عن عريس المناسبة، ولكنك ما إن بدأت بالكلام حتى شعرنا أن المتكلم «بجَّاش» آخر، له لغته المدهشة وتعابيره الساحرة ورؤاه الثاقبة وأسلوبه الأدبي العذب وتحليله المثير وإيقاعه الروائي المبهر.

ذلك الـ «بجَّاش» الذي سلب لبَّ الحضور وأثملهم برشاقة لغته وتعابيره المختزلة لتفاصيل كثيرة ومشوقة بطلها «المسَّاح»، كشف للجميع ما خفي من سيرة «المسَّاح»، كما كشف للحضور ذلك الإنسان الآخر من بجَّاش.

لقد اكتشفنا ووجدنا أن المسَّاح صاحب «لحظة يا زمن» هو شخصية روائية وملحمية عظيمة تختزل معاناة وطموح وإرادة الإنسان وتمرده ومقارعة ظروفه وعذاباته في سبيل تحقيق أحلامه ونسج محيطه بخيوط من الرؤى والأفكار، واكتشفنا كم هو عبدالرحمن بجَّاش إنسان رائع ومخلص لرفاقه وزملائه، وفي نفس الوقت كم أنت يا عبدالرحمن يا بجَّاش ديكتاتوري وطاغية وأناني تمتلك أرصدة فائضة من القسوة والإقصاء والإلغاء والنفي، اكتشفنا كل ذلك فيك عندما اكتشفنا «بجَّاش» الأديب المبدع المقموع في أعماقك.

أجل كنت قامعاً للأديب المقموع والمسجون في أعماقك منذ سنوات طويلة، قمعت بكل قسوة الأديب «عبدالرحمن بجَّاش» وحرمته من أن يمارس صلاحياته الثقافية وحقوقه الإبداعية والأدبية، ومنعته من مراقصة أنامله لكلماته، كيفما أراد، كي يقدم مواهبه إلى الناس في صورة يحددها هو شخصياً.

يا له من مشهد مثير، دفعنا إلى إلهاب كفوفنا بالتصفيق، فقد شاهدنا «المقموع» يطلُّ مثل إشراقة حلم ويقلب الطاولة في وجه «القامع» ويصافح جمهور القاعة من خلال هالات كلماته المبتلة بندى الود والصداقة والإبهار.

“بجَّاش» الأديب مزّق أستار ليله وحطم قيود صمته وهتك عرض الخوف وأعلن ثورته ورغبته في الحياة تحت الشمس والنور وبين الناس والتسكع برفقة المعاني والكلمات في الحارات والأزقة والشوارع والهضاب والتلال والسهول والجبال والوديان والحقول، متمتعاً بدفء المشاعر، متحمساً لآلامهم وآمالهم وهمومهم، يذوب في نظرة عين شاردة ويرقص على رنات وتر ويحلم مع ضحكة فاتنة ويتناثر أشجاناً صادقةً كلما داهمته بحة ناي تعزفها أنامل راعٍ تعنقد قلبه بمواسم الحب والأشواق والربيع.

لقد كنت من أراد أن يطفئ الشمس، ففشلت، وتراجعت كسيراً وحسيراً.
حاولت أن تردم الينبوع من الانبثاق والتدفق، ففشلت، حاولت أن تكبح جماح الجواد، فانطلق غير عابئ بك.
حاولت أن تخمد جذوة الإبداع في أعماقك، فأجّجت لهيبها.

حاولت أن تتشبه بديكتاتوريي العالم الثالث فجرفتك رياح الثورة والتغيير.

حاولت أن تمارس دور الأب القاسي والمعلم الشرس، فكان العقوق نصيبك.
حاولت أن تحتكر الموهبة لصمتك فأشاعت مفاتناها للعصافير والناس، حاولت أن تتحول إلى «فتوة» متسلط، فهزمتك نفسك وخارت قواك.
حاولت أن تفرض قوانينك وتعليماتك ورغباتك، فهبّ الطوفان وانفجر البركان.

حاولت أن تعمم نمطك وروتينك الوظيفي، فتمرّدت عليك أعماقك.
حاولت أن تطمس تضاريسك الطبيعية، فانزلقت إلى منحدرات الحقيقة.

حاولت أن تقنع نفسك بعدم جدوى الإبداع والتمسك بأعذار العمل، فحصدت الخيبة ولقّنك درساً في المصالحة مع الذات.

حاولت أن تقمع «بجَّاش» الأديب المدهش بين ضلوعك، فسخر منك.
حاولت أن تسكته، فهول وغدر، فأشجى وأطرب.

حاولت أن تحجب شروقه فشع بالضوء والبهاء.
وحاولت أن تخفيه وتطمسه وتستره وتدفنه وتلقيه إلى غبش المفردات وتغمره بقتامة النهايات وترسمه في جبِّ اليأس وتهيل عليه تراب النسيان وتغطيه بلحاف خشن نسجته الأعوام، فحصدت الريح وقبضت الماء وصافحت الفراغ وثملت بالخيبة والهزيمة.

الأديب «بجَّاش» المقموع في أعماقك، كان ذكياً وداهية ويجيد التخطيط للانقلابات ونسج المؤامرات، ويلمُّ بتضاريس الأرض التي يختارها ساحة لمعركته الفاصلة، ويعرف متى يحدد الوقت المناسب للحظته الحاسمة وانطلاق ثورته العارمة، ويعرف كيف يحشد الأنصار ويهبّط معنويات خصمه، ويعرف كيف يحرّض جماهير الإبداع، ويعرف كيف يمكنه أن يحظى بتأييد وتأليب المشاعر الجياشة معه، ويعرف كيف ينتزع بجدارة اعتراف الجماهير بشرعيته وكيانه واستقلاله وحريته.

< هذا المبدع الداهية حقق مراده وضرب ضربته ونفّذ إرادته في المكان والوقت المناسبين، وفي المناسَبة المُناسِبة، فلم يجد أروع من حفل تكريم «المسَّاح» ولم يجد فرصة أفضل من صباح ذلك اليوم التاريخي في مسيرة نضاله من أجل الاستقلال ونيل الحرية، ليعلن عن نفسه ويظهر نواياه المشروعة، فما إن حاولت أن تتكلم برصانة يتطلبها الموقف، وأن تراعي أجواء المناسبة، وأن تتوخى الحذر من الجمل والكلمات التي تبعث الملل والسأم بين أوساط الجمهور المحتشد في قاعة التكريم، حتى وجدت نفسك في موقف حرج للغاية، مما جعلك تعتذر عن المواصلة، لأن هناك شخصاً آخر طلب منك بكل ذوق التنحي عن منصة الخطابة.

وأن «تركن» نفسك على «جنب» وأن تعلم أن صلاحية سيطرتك قد انتهت وأنك فقدت زمام الأمور، وتمت الإطاحة بك والاستيلاء على مقاليد الأمور وغربت شمس سطوتك وانهارت أسوار رعبك وسقطت عهود قمعك.

< كان الموقف رائعاً والمشهد عظيماً والحدث مهولاً، لقد أزاحك ذلك الأديب المقموع، الخارج من أغوار أعماقك، وانتصر عليك وجردك من كل سطوتك وتقدم ليتحدث عن نفسه ويستعرض إمكانياته ويطلق مواهبه ويعرّي أسراره ويظهر أمره ويعلن عن وجوده وكيانه.

< في تلك اللحظة التاريخية المجللة بالروعة والدهشة، وضح الصبح وبان ولاح برق الحقيقة ولمع، وعلا صوت الإرادة وصدح وتعالى هتاف الإنصاف، في تلك اللحظة افترَّ ثغر الأديب وحسرت لثامه وانحسرت غمومه، وانقشعت همومه وغيومه، وظهرت مكنوناته وتفتقت روائعه وجفل كربه وسرى عنه حزنه وخفقت في الأعالي رايات سروره وشهر سناؤه وبهر ضياؤه، وأشرقت بهجته وجاهر بنفسه وأشهر براهينه وحججه ودلائله وشواهده الساطعة على أصالة مواهبه وإبداعه.

كم كان رائعاً ذلك الأديب المبدع القادم لتوه من زنزانته المحطمة وهو يهمس في أذنيك : لو سمحت يا أخ انسحب من أمام المنصة، لقد حان دوري، وأفل نجم كبتك لي، وكم كان رائعاً وهو يطل على الجمهور الحاضر الذي أتى ليحتفي بتكريم المسَّاح، فكانت الفرحة فرحتين، فرحة التكريم، وفرحة اكتشاف «بجَّاش» الأديب.

كانت إطلالته البهية إعلاناً بكل لغات البشر عن أنه قد امتلك إرادته وتسنم زمام أموره وتسلم دفة مصيره وخطط مساره واختار طريقه وتحرر من سجنه وأسره، لقد عصى وعتا وتمرد على ظروفه وصار حر الإرادة والخطوة والكلمة والقرار، صار منيع الملمس وصعب المرتقى وأبي الانقياد وعصيّ الانثناء، عظيم الصولة، قوي الشكيمة والسطوة، عزيز الهيبة.
** ذات صباح مبهجٍ..

حول الموقع

سام برس