بقلم/ الشيخ .عبدالغني العمري ال
إن الغاية من العقل، إدراك الحقيقة. هذه الحقيقة قد تكون جزئية إجرائية، كما قد تكون كلية علوية. والعقول كلها، لها نصيب من إدراك الحقيقة بحسب مرتبتها. فأقل العقول إدراكا، والتي هي العقول المعاشية، تدرك ما تقوم به من ضروريات مادية؛ لكن هذا الإدراك يكاد لا ينفعها في تبيّن النسق العام الوجودي، الذي هو مطلب العقل الفلسفي، والعقل الديني.

إن العقل الفلسفي يعطي الانطباع بأنه أعلى العقول، عندما نجده يبحث عما وراء كل المـُدركات الحسية والمعنوية المعتادة. وقد يُظن في مقابل ذلك، بنزول العقل الديني عنه في المرتبة، عند تسليمه بما لا يُدرِك حقيقته، من شعائر وعبادات؛ تتوهم العقول الفلسفية أن التسليم بها، حتما هو مخالف للمنطق السليم. والحقيقة هي أن الدين إن كان ربانيا، فإنه يرتقي بالعقل إلى ما لا يتمكن من العثور على طريقه من نفسه أبدا، فضلا عن أن يعثر عليه هو ذاته (المقصود).

والغاية التي تسعى إليها العقول، إما عن وعي وإما عن جبلة، هي حقيقة الوجود، وما يُشهد منه في عالمي الحس والمعنى معا. وإدراك الحقيقة وإن كان حقيقيا، فإن الناس يتفاوتون فيه، إلى الدرجة التي قد توهم بالاختلاف، عند إنكار الأدنى ما قد يفوه به الأعلى.

ولما كان للحقيقة شأنان أحدهما الظهور والآخر البطون، فإن هذا قد جعل الزمان تحت حكمي هذين الشأنين، على العموم، فيما يتعلق بمسار البشرية جمعاء؛ أو على الخصوص، فيما يعود إلى أمتنا التي هي الآخرة في الأمم. وقد كان الحكم للبطون في كل الأزمنة عموما، التي كانت قبل البعثة المحمدية، في حين أن الحكم بعد البعثة قد صار للظهور. ولكن فيما يخص الأمة المحمدية وحدها، فإن الحكم انتقل من الظهور في النصف الأول من مدتها، إلى البطون في النصف الثاني. وإن أهم ما يميز هذا الانتقال، هو ظهور العقل الوراثي الأكبر، في الأمة بين القرنين السادس والسابع الهجريين، ألا وهو ابن العربي الحاتمي رضي الله عنه، والذي هو الختم المحمدي الخاص بهذه الأمة، في مقابل الختم المحمدي العام في البشرية كلها من جهة الولاية، والذي هو عيسى بن مريم عليهما السلام.

وظهور الشيخ الأكبر، كان مؤذنا بالدخول تحت حكم الباطن، وكان تجديدا للدين بفتح الباب على الحقيقة، لا يعلوه في ذلك إلا العقل النبوي المؤسس للدين بالأصالة. ولما كان عقل الشيخ ابن العربي بهذا السمو، فإن العقول الضعيفة قد سارعت إلى إنكار ما جاد به من علوم، حتى تُبقي على مكانة لها بين الضعفاء. لكن كل هذا لا يمكن أن يؤثر في حقيقة ما صار واقعا لا يقبل الانتفاء، وهو دخول العقل العربي الإسلامي مرحلة جديدة من مقاربة الحقيقة، ومن إمكان تحقيق الترقي، إلى حيث لم يكن الناس يظنون أنه داخل ضمن المتاح.

وسيعرف قيمة العقل الأكبري صنفان: الأولياء، الذين عرفوا أنه ينطق من مكانة لم يبلغوها؛ والفلاسفة الأحقاق، الذين ظهر لهم أنه ينطق من خارج دائرة العقل. ولقد عرف خواص الأولياء مرتبته الختمية من غير عسر؛ لكن عوامهم وطائفة الفقهاء، توهموا أنه متفلسف، خلط بين علوم أهل الطريق (التصوف) ومقولات الفلاسفة. أما الفلاسفة، فلجهلهم بطريق السلوك (السير) الديني، فإنهم لا يرونه إلا فيلسوفا أكبر؛ وهم بالتأكيد مخطئون في ذلك...

إن إدراك الحقيقة، ليس منوطا بالعقل كما يتوهم أنصاف العقلاء؛ وكأنها (الحقيقة) نظير لكل ما يتناوله العقل، ويدخل في دائرة تصرفه. ولقد جهل هذه الخصيصة التي للحقيقة جل العقلاء من داخل الأمة ومن خارجها، بسبب طغيان الكسب لديهم، وجهلهم بالتلقي الذي هو الأصل، كما ذكرنا مرارا. وإن التلقي (الوهب) قد عودي من قِبل المعادين لسببين اثنين: الأول: لأن جل العقول تقصر عنه، بسبب عدم صفائها، أو بسبب عدم اتباع الشريعة؛ والثاني: لأن الفقهاء ينزلون بالخطاب الديني، من مستوى الوحي إلى مستوى العقل المفكر، الذي لا يداني العقل الفلسفي عينه في كثير من الأحيان. وهذا الأمر قد أعطى انطباعا لدى من لا علم له، بتخلف الدين من حيث هو، عن الفلسفة. وقد نتج عن هذا الخلط ضرر كبير، لا زالت الأمة تعاني منه إلى اليوم. وزاد من ترسّخ هذا الانطباع، استمرار تقهقر العقل الفقهي ذاته مع مرور الزمان.

وأما اللبس الذي وقع فيه الفقهاء، فهو توهم كونهم على علم بالحقيقة، لمجرد اشتغالهم بالعلوم الدينية، بحسب عقولهم (مكانتهم)؛ فصاروا يدلّون بخطابهم على ما لا يدركون في الحقيقة. ومع قصورهم البادي، ظنوا أن لا مطلب وراء ما هم عليه؛ وكأن الدين لا يعطي غير ما وصلوا هم إليه. فحكموا على الدين -ولو من غير قصد- بالانقطاع المنتج للعقم. وهذا الانقطاع، هو الذي سيمكّن السلاطين على مر العصور، والسياسيين اليوم، من توظيف الدين توظيفا دنيويا، يضر بالناس ولا ينفعهم.

ومن شدة ما انطمست حقيقة الدين لدى الناس، صاروا لا يخطر في بالهم أنه مصدر للمعرفة، وأنه طريق إلى الحقيقة، يبلغ بهم -إن أذن الله- ما لا يبلغه التفلسف وإعمال العقل. بل إن جل المفكرين اليوم -لضعف عقولهم وإيمانهم- لا يرون الخلاص إلا في الانعتاق من الدين، إما كليا وإما جزئيا؛ من غير أن يمحصوا ما يظنون؛ وكأن الأمر فيه متسع للتجربة، التي قد تذهب بأجيال في سبل الهلاك، قبل أن يُعلم عدم جدواها. ولا يخفى هنا، ما للتقليد من مدخل في الأمر، ولا ما للعقل المعاشي من اعتبارات، يُقدمها على ما هو أولى باعتبار العقول الأرقى...

حول الموقع

سام برس