بقلم/ طه العامري

(1_4)
في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي بزغ فكر وثقافة الهوية القومية كخيار استراتيجي لمواجهة المخططات الاستعمارية المباشرة في الوطن العربي التي جاءت تجسيدا لاتفاقية سايكس _ بيكو ، ومع خفوت مدافع الحرب العالمية الثانية برزت القيم والمفاهيم القومية وكانت أهم الأسلحة التي جوبهت بها القوى الاستعمارية في المنطقة ، كما شكلت ثورة 23 يوليو في مصر بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر نقطة تحول في الوعي الثقافي العربي , وكان يمكن للأمة من محيطها إلى خليجها أن ترتقي بدورها ورسالتها الحضارية وعلى مختلف الجوانب أن هي تمسكت بدورها الحضاري كخير أمة أخرجت للناس وعرفت واجباتها الدينية.

الحضارية واستوعبت أهمية موقعها الجغرافي والدور الواجب أن تقوم به بين الأمم ، لكن للاسف لم يستوعب العقل الثقافي العربي كل تلك الأدوار التاريخية والحضارية المفترض أن تقوم بها هذه الأمة ، بعد أن فرض العقل (الانتهازي ) رؤيته ومفهومه وقيمه ، فتلاشت فكرة الوعي القومي الجمعي على خلفية التنافس السياسي المجبول بانتهازية الفعل الذاتي الباحث عن مكانة ودور وان على أنقاض الأمة والوطن الكبير والأحلام والتطلعات الجماهرية ودور الأمة ورسالتها ، ليجد الفكر القومي بكل قيمه وأهدافه واحلام وتطلعات معتنقيه نفسه أسيرا لنوازع _ قطرية ورغبات وحسابات إقليمية _ غذتها الرغبات الانتهازية والتصرفات والسلوكيات القطرية القاصرة إضافة إلى دور قوى الاستعمار والرجعية حلفاء الاقطاعيات السياسية والاقتصادية والقبلية العربية وكل هذه القوى كانت تعمل وفق محددات استعمارية غاية في الاحترافية التي تجعل كل السلوكيات مبررة في سياق الفعل ورد الفعل وهي مبررات اخذت بها حد التقديس القوى الانتهازية التي راحت تخضع كل المفاهيم القومية لجدلية الربح والخسارة ، حتى وجدنا أنفسنا أمام فكر قومي يعد ( رجسا من عمل الشيطان ) ؟!
منطق كان يبشر بنجاح القوى الاستعمارية وحلفائها في أولى خطواتهم الاستهدافية للعقل العربي الجامع بما يحمل من قيم ومفاهيم حضارية وإنسانية .

كانت معركة السويس والعدوان الثلاثي على مصر عبد الناصر 1956م قد مثلت نقطة تحول إيجابي في مسار العمل القومي واحدثت ما يشبه الثورة في العقل العربي الذي بداء بعد تلك المعركة وكأنه صحى من سباته وغفلته لتنطلق على إثر ذلك تفاعلات قومية شملت مختلف الجوانب الحضارية للأمة من محيطها إلى خليجها ، فيما العالم من حولنا راح يتلقف تحولاتنا ويتعاطى مع الأمة برؤى تليق بمكانة أمتنا ودورها ورسالتها وموقعها المتحكم بمسارات التواصل الحضاري الكوني ..وذلك ما كانت القوى الاستعمارية وحلفائها يخشون منه وبما أن هذه القوى أخفقت من خلال الحرب والعدوان في احتوى تلك التحولات المثيرة للأمة في نطاقاتها القومية والقطرية ، عملت على اختراق الواقع الاجتماعي العربي قوميا وقطريا وسعت إلى استغلال النزوع الذاتي لدى القوى العربية الفاعلة التي كان الرهان كبيرا عليها في تحقيق التحولات الحضارية العربية ووضع الأمة في موقعها الحضاري المفترض أن تكون فيه .

عقدين فقط من فجر اليقضة القومية وبزوغ شمس الحرية والاستقلال والسعي نحو تحقيق التكافل بمفهوم العدل الاجتماعي وان بحدودها الدنيا الكفيلة بإعطاء الشرائح الاجتماعية قدرا من حياة الحرية والكرامة ، تلك المشاعر التي ما أن بزغت شمسها حتى وجدنا من يسعى لحجب أنوارها وطمس أشعتها من خلال تكريس ثقافة النزوع القطري تحت ذريعة الانتصار للذات الحزبية والهوية الحزبية ..؟!

استطاعت القوى الاستعمارية التي فشلت في عدوان 1956م أن تنسج تحالفاتها الجديدة بطريقة ذكية مستعينة بقوى الاقطاعيات السياسية والقبلية _ جماعة الإخوان ، الرأسمالية الطفيلية ، الوجاهات الاجتماعية العربية ، التي تضررت مصالحها من فجر اليقضة القومية والتحولات الثورية العربية ، واستطاعت القوى الاستعمارية أن تسخر النظام الرجعي العربي حليفها الاستراتيجي وتسخير قدراته المالية والمعنوية في تمويل أنشطة القوى الفسيفسائية المرتبطة بها ومنحها قدرات مادية وإعلامية وتغطية أنشطتها وعلى مختلف الجوانب متذرعة بغيرتها على _ الدين _ أولا ، ثم غيرتها على قيم وأخلاقيات المجتمع العربي التي تنهار على أيدي التيار القومي والتيارات السياسية الساعية لتحقيق أهداف الامة في الحرية والاشتراكية والوحدة ، وهي الأهداف التي اقلقت مضاجع القوى الاستعمارية وحلفائها في الوطن العربي .؟!

ساهم في احتوى التطلعات الشعبية العربية _ بيروقراطية النظام القومي العربي _ المنقسم بدوره على نفسه بين رؤيتين ،رؤية ( ناصرية ) و رؤية ( بعثية ) ، وفيما كانت الرؤية الناصرية تتميز بنقاوة أهدافها ومثالية ومصداقية زعيمها القائد الخالد جمال عبد الناصر ، كانت البيروقراطية تفرض قيمها وخياراتها على مفاصل النظام الناصري إذ أن النظام الناصري لم يكن ناصريا ولم يكن بنقاء ومثالية رأس النظام وهو الزعيم جمال عبد الناصر الذي إليه تنسب الناصرية ، كانت المثالية تنحصر في سلوك ومواقف مؤسسها وفي تجربتها الفكرية والسياسية وأهدافها النضالية ، فيما كانت ادوات النظام الناصري ذات قيم بيروقراطية وسلوكيات انتهازية مجبولة بكثير من ثقافة النفاق والخداع ..!!
في الجانب الآخر كان هناك ( البعث ) الذي لم يكن خاليا من التشوهات الانتهازية ورغبات بعض رموزه في الانتصار لمشاريعهم الذاتية ، ولم يتردد بعض رموز البعث في جعل عبد الناصر عدوهم الأساسي قبل العدو التاريخي للأمة ، مناقضين بمواقفهم اهداف البعث وادبياته السياسية والفكرية .

كانت مصر عبد الناصر قد طلعت من عدوان السويس كقوة ثورية صاعدة وزعيمة لدول العالم الثالث ومتزعمة لحركة دول عدم الانحياز .
يتبع

حول الموقع

سام برس