بقلم/د. بثينة شعبان
الوقت ملائم جداً والظروف ساخنة والأزمات المتعاقبة شكّلت فرصة هائلة لإحداث تغيير جذريّ، وشدّ أزر التوّاقين إلى الانتصار للحقّ والأرض والسكان الأصليين بعد قرون من النفاق والكذب والمتاجرة بحقوقهم. لا شكّ في أنّ العالم يصغي اليوم ولا شكّ في أنّ الحكومات العنصرية ستكون مجبرة على أن تتعلم.

جواباً عن سؤال حول رأيه بأداء ترامب مع الجماهير الغاضبة في الولايات الأميركية، وبعد صمت أبلغ من الكلام استمرّ أكثر من عشرين ثانية، أجاب رئيس وزراء كندا جاستن ترودو: «لِنُصْغِ ونتعلّم»؛ حيث شكّل هذا الجواب مفارقة صارخة مع موقف المسؤولين الأمريكيين من هذه الاحتجاجات العارمة والمحقّة. ذلك لأنّ تصريحات ترامب، ومنذ اليوم الأول بعد مقتل جورج فلويد برهنت على أنه يستمع فقط إلى ما يدور في خلده، أو إلى الحفنة من المقرّبين منه، والذين بدورهم لا يرون هذه الجماهير، وإذا رأوها لا تعني لهم شيئاً، ولا يسمعونها، وإذا سمعوها لا يفهمون ماذا تقول وماذا تبتغي.

رغم كلّ المصاعب والأزمات التي تميّز بها هذا الزمن، وبخاصة هذا العام الأخير من العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين، فلا شكّ أنه وقبل كلّ شيء زمن كاشف، زمن اتّصف بتعرية النفاق والأكاذيب، وتفجير الفقاعة التي يعيش فيها عدد ليس بالقليل من مسؤولي حكومات العالم. فمهما كان السبب وراء كوفيد 19، ومهما كانت الأهداف من ورائه، بريئة أو مقصودة، فقد سلّط الأضواء على حقيقة الأنظمة الصحية في البلدان التي اعتبرت التقدّم والديمقراطية حكراً عليها، وأظهر للعالم ضعف هذه الأنظمة، وعدم اكتراث المسؤولين بصحة عموم الناس والخدمات المقدّمة إليهم.

كما كشف عن أنّ الدولتين الشرقيتين، الصين وروسيا – واللتين تقعان دائماً في مرمى الاتهامات الغربية لسبب أو من دون سبب – هما الوحيدتان اللتان مدّتا يد العون للدول الأوروبية وحتى للولايات المتحدة الأميركية للتغلّب على الصعوبات الجمّة التي خلقها انتشار فيروس كورونا، ولكن مقتل المواطن الأميركي جورج فلويد نقل مسألة الكشف والتعرية إلى مستوى آخر؛ إلى مستوى له علاقة ببنية الحكم وطبيعته في الدول التي لطالما ادّعت أنها شرطيّ تطبيق حقوق الإنسان والحارس الدولي له في قارّات الأرض المختلفة.

إذ كشف الصلف الذي تعاملت به الشرطة مع المواطنين الأميركيين من أصل أفريقي أنّ العنصرية تدخل في نخاع التربية والتدريب الأميركيين بحيث لا يلاحظ الشرطي أنه يرتكب أيّ خطأ وهو يودي بحياة رجل أسود أو يطرح أرضاً رجلاً مسنّاً ويتركه ينزف على الأرض، ويمر رجال الشرطة الآخرون به من دون أن يمدّ أحد منهم يد العون له أو ينقله ليسعفه من موت محتمل. وهنا تبرز أهمية عبارة رئيس وزراء كندا «لِنُصْغِ ونتعلّم»؛ أي لنسمعْ ماذا يقول الآخرون، ولننصت إلى ما يقولون ولنفهمْ ماذا يقولون ولنتعلّم أشياء لا نعرفها عن واقعنا هذا كي نتمكّن من معالجتها. وهذا هو بيت القصيد.

هل المجموعة الحاكمة في الولايات المتحدة، والتي تحكم بعقل أبيض لا يُظهر المواطنون الأفارقة على خارطتة أبداً، هل هذه المجموعة قادرة على الإنصات إليهم؟ وهل هي قادرة على الفهم، وهل هي قادرة على الاستجابة؟ وهل النظام الذي تدخل العنصرية في أصل تكوينه قادر فعلاً على رؤية ذاته في المرآة وممارسة نقد الذات ووضع حدّ لكلّ ما يشوبه من انتهاك صارخ لحقوق الإنسان في الداخل الأميركي وخارجه؟

ولعلّ هذه التجربة مفيدة لنا نحن الشعوب التي عانت وما زالت من الصلف الأميركي، ومن الغزو والاحتلال الأميركي المباشر، والدعم المنقطع النظير للاحتلال والإرهاب الصهيوني ضدّ شعبنا في فلسطين، لعلّ هذه التجربة تُرينا اليوم وبشكل واضح ومبسّط لماذا لا يدينون الاستيطان، ولا يدينون هدم منازل الفلسطينيين أو تهجيرهم أو الاستيلاء على القدس والجولان، ذلك لأنهم لا يرون الفلسطينيين أو العرب كبشر مساوين لهم أو للصهاينة؛ أي بعبارة أخرى لأنّ العنصرية ضدّ العرب وضدّ الفلسطينيين هي جزء بنيوي من تفكيرهم، تماماً كما هي العنصرية ضدّ الأميركيين الأفارقة في الولايات المتحدة، فهم لا يلاحظونها ولا يرون أيّ شيء خطأ في ممارساتهم لأنّ تعليمهم وثقافتهم وممارساتهم كلّها بنيت على أساس عنصريّ وعلى أساس تفوّق العرق الأبيض على كلّ الأعراق الأخرى.

ورغم التمظهر بمظهر الحضارة، والادّعاء بالحرص على حقوق الإنسان، فإنّ العنصرية التي عانى منها شعب جنوب أفريقيا، والتي ناضل ضدّها نيلسون مانديلا ومن قبله مارتن لوثر كينغ، مازالت هي هي، متداخلة في النظم والقوانين والتصرّفات التي تحكم الولايات المتحدة والدول الغربية وربيبتها إسرائيل وكلّ ما قامت وتقوم به بحقّ الشعب الفلسطيني منذ سبعين عاماً وحتى اليوم.

والسؤال الجوهريّ هو هل سيتمكّن الغضب الشعبي في الولايات المتحدة وأوروبا وحول العالم من أن يرغم القادة والساسة الغربيين على إعادة النظر في بنية النظام العنصري الذي يحكم الأجيال منذ قرون، أم أنها ستكون زوبعة في فنجان، وسيعود الفقراء إلى قدرهم المحتوم، ويستأنف الحكّام ممارساتهم بعد أن طَوَوا صفحة هذا الكابوس المؤقت من دون أن يغيّر في الأمور المصيرية شيئاً؟

لا شكّ في أنّ هذا الغضب، وهذه التظاهرات قد أسقطا القيادة الأخلاقية للولايات المتحدة وللغرب أيضاً، وجعلا من ادّعاءاتهما الحرص على الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان نكتة سخيفة، وهذا بحدّ ذاته إنجاز لا يُستهان به في مرحلة المخاض هذه التي يمرّ بها العالم، والتي تمهّد لتشكّل عالم جديد مختلف عن ذاك الذي ورثناه عن الآباء والأجداد.

ومع أنّ التظاهرات في الولايات المتحدة وكلّ ما رافقها من تفكير وتأمّل ومحاضرات وتصريحات حول التاريخ الأميركي والقهر والعبودية اللذين عانى منهما الأميركيون الأفارقة منذ تمّ خطفهم من بلدانهم وبيعهم كرقيق قد تهدأ غداً أو بعد غد، فلا شكّ في أنها شكّلت مفصلاً مهماً سيتمّ البناء عليه في هذا المخاض العسير.

وأشارت إلى أنّ الجهود الأميركية لإيقاف التطوّر المتسارع للصين والنموّ المنتظم الذي يؤهلها أن تقود العالم خلال فترة قصيرة، قد عادت بنتائج عكسية على الولايات المتحدة نفسها، بينما ربحت الصين الحرب الأخلاقية والمجتمعية وحتى السياسية، وأظهرت للعالم التماسك القائم بين القيادة والشعب، والذي لا تستطيع أيّ دولة غربية أن تنافسه أو حتى تضاهيه.

إنّ ثورة الأميركيين ضدّ العنصرية في الولايات المتحدة ستشكّل مفصلاً تاريخياً مهماً لا يمكن تجاوزه، وقد يكون أساسياً في تشكيل مستقبل للولايات المتحدة ومكانتها الدولية. ولكنّ هذا يجب أن يكون درساً مستفاداً لنا جميعاً وخاصة نحن العرب الذين ما زال البعض منّا يعاني من ذات الاستلاب التي أورثهم إياها الاستعمار وما زالوا يلهثون وراء الكيان الصهيوني لكي يكون عوناً لهم في التقرّب من الولايات المتحدة ودفع الميزانيات الهائلة كسباً لرضاها.

كما يجب أن يكون درساً مهماً للصامدين والمقاومين والمؤمنين بقضاياهم بأنّ الصبر والصمود كفيلان بأن يوصلوا أصحاب الحقّ إلى مبتغاهم ونيل حقوقهم خاصّة وأنّ العالم يتغيّر لصالح أصحاب الحقّ وضدّ الظالمين والطغاة، وكلّ ما علينا أن نفهمه اليوم هو أنّ هذا المخاض العالمي الذي قد يستمرّ لسنوات، هو مخاض لصالح إحقاق الحقّ، وضدّ الاستعمار والهيمنة والظلم والاحتلال.

لن تتمكّن الولايات المتحدة من خلال إجراءات فيروس كورونا أو غيره من إيقاف التقدّم الذي حقّقته الصين، ولن تتمكّن من إعادة عجلة التعاون بين الصين وروسيا إلى الوراء. بل إنّ هذه العجلة مرشّحة لتشمل دولاً غير تقليدية مثل ألمانيا. ولن تتمكّن بعد اليوم من تبرير عدوانها واحتلالها بحجة الحرص على حقوق الإنسان والديمقراطية، فقد تغيّر العالم فعلاً على الشاشة وفي الساحات وفي اللغة المتداولة بين الناس في أركان هذا الكوكب الأربعة، ولا بدّ من أن يتمأسس هذا التغيير في المدى القصير أو المتوسط في الولايات المتحدة والدول الغربية.

لن يكون مساراً سهلاً ولكنّه حتميّ، والعامل المهمّ لنا هو أن تتخذ الدول المتضرّرة من الاحتلال الأميركي وتدخلاته الفجّة في بلداننا مع الصين وورسيا وإيران أشكالاً من التحالفات تمكّنها من ممارسة دورها الطبيعي في العالم، وتطويره بغضّ النظر عن رأي الغرب ورضاه.

الوقت ملائم جداً والظروف ساخنة والأزمات المتعاقبة شكّلت فرصة هائلة لإحداث تغيير جذريّ، وشدّ أزر التوّاقين إلى الانتصار للحقّ والأرض والسكان الأصليين بعد قرون من النفاق والكذب والمتاجرة بحقوقهم. لا شكّ في أنّ العالم يصغي اليوم ولا شكّ في أنّ الحكومات العنصرية ستكون مجبرة على أن تتعلم.

المصدر: الميادين

حول الموقع

سام برس