بقلم/د. بثينة شعبان

حين استقبلتُه بعد تحرير بلدته من آثام الإرهاب، بدا لي وكأنه شاخ عشرين عاماً وانحنت أكتافه وسبلت أجفانه على عينين خجلتين من النظر في وجه المتلقّي. كان قبل تعرّض بلدته للإرهاب يستحضر معه تاريخاً وشموخاً وغنى وحضارة بلدةٍ يفخر ويعتزّ بها ومازال.

حدّثني عن شجاعة شباب وشابات القرية في دحر الإرهاب عن بلدتهم وإعادتها إلى حضن الوطن وإعادة أهليها إلى أحضان تلالها وروابيها ووديانها الجميلة المعطاءة، ولكنّ شيئاً ما انكسر في داخله رغم مكابرته ومحاولاته دفن الألم في أعماق نفسه.

سألته عن زوجته والأولاد وعن سلامتهم فقال: “كلهم بخير ولكنّ بيتنا الذي تعرفين وتحبين أصبح ركاماً؛ فقد دمّرته قذائف الإرهابيين، ومن ثمّ نهبوا كلّ شيء منه؛ حتى صورنا وذكرياتنا العزيزة أحرقوها ولم يتركوا لنا شيئاً نحمله ونعايشه من حياتنا الماضية. ورغم كلّ الصبر الذي منحنا الله إياه فإن فقدان البيت كارثة لا تعادلها كارثة في الحياة؛ فهو المأوى والسكن والنعمة والذكرى والهوية، وهو الماضي والحاضر وحلم المستقبل”.

كم هو مجرم من يدمّر بيتاً ومن يجبر الناس على الرحيل، وكم هو مجرم من يتسبّب في لجوء ونزوح وتشريد عائلات مستقرّة تبني حياتها كما تبني جدران منزلها لبنة لبنة، وتمزج كلّ لبنة بعرق جبينها وابتساماتها وآهاتها وقصصها ورواياتها، فتصبح جدران البيت كجدران القلب جزءاً لا يتجزّأ من النّفس والرّوح.

حين استقبلته كنت للتوّ قد انتهيت من قراءة تقريرٍ بعنوان “كلفة الحرب”، نشرته مؤسّسة واتسن في جامعة براون بعنوان فرعيّ: “خلق اللاّجئين: النزوح الذي تسبّبت به الولايات المتّحدة في حروب ما بعد 11/9/2001 “. وقد صدر التّقرير لعدد من الباحثين في 8 أيلول/سبتمبر 2020 .


يقول التّقرير إنّ الحروب التي شنّتها الولايات المتّحدة بعد 11 أيلول/سبتمبر في أفغانستان والعراق وباكستان واليمن والصّومال والفلبّين وليبيا وسورية قد تسبّبت بنزوح 37 مليون إنساناً كنتيجة لما أسمته الولايات المتّحدة “الحرب على الإرهاب”؛ فهل كانت هذه الحروب على الإرهاب أم على البشر الآمنين في هذه البلدان والذّين عصفت بهم هذه الحروب بينما ازداد الإرهابيّون قوّة وانتشاراً؟

يقول التّقرير أنّ حجم النزوح في هذه البلدان الثّمانية الّتي تمّت دراستها وصل إلى مستويات لا مثيل لها إلاّ في الحرب العالمية الثّانية. علماً أنّ رقم “37 مليون” هو رقم منخفض بينما قد يصل عدد الّذين أُجبروا على النزوح إلى خمسين مليون شخصاً.

يقول “دافيد فين” أستاذ الأنثروبولوجيا في الجامعة الأمريكّية في واشنطن ومؤلّف أساسيّ للتّقرير: “إنّ انخراط وتورّط الولايات المتّحدة في هذه البلدان الثّمانية كان كارثيّاً وألحق ضرراً خطيراً بها بطريقة لم تخطر ببال سكان الولايات المتّحدة أنفسهم ولم يكن لدينا، بمن فيهم أنا، أدنى فكرة عن حجم هذه الأضرار.

في بعض الحالات فإن النزوح الذي تسبّبت به حروب ما بعد 11/9 قد مزّق مجتمعات كاملة ومجموعات بشريّة وحياة مستقرّة منذ عهود”.

والأمر اللاّفت هنا هو حقيقة نتائج هذا البحث على مستوى الآثار الكارثيّة لحروب الولايات المتّحدة التي تدّعي فيها محاربة الإرهاب وعلى مستوى اللّجوء والنّزوح والفقر والألم الذي تسبّبت به هذه الحروب لملايين البشر وفي بلدان عدّة.

النقطة المهمّة هنا هي أن نقارن بين الّلغة التي تستخدمها الولايات المتّحدة للترويج لهذه الحروب وبين الواقع الحقيقيّ الذي تخلّفه هذه الحروب على الأرض. وهذه نقطة تنسحب على كلّ ما تقوم به الولايات المتّحدة وربيبتها “إسرائيل” ؛ إذ لا بدّ لنا من أن نخلّص اللّغة المرويّة، إعلاميّة كانت أم سياسيّة، من الانتهاك الذي تتعرّض له على أيدي من يمارسون الإرهاب بأبشع صوره ولكنهم يستخدمون مفردات مختلفة توحي بمشروعيّة ما يقومون به رغم أنّه لا يختلف أبداً عمّا تقوم به العصابات الإرهابيّة من قتل وإعدام وإجرام ؛ فإذا أطلقت الولايات المتّحدة على قتل قاسم سليماني ومهدي المهندس “اغتيالاً” فهل هذا يجعل هذه الجريمة مختلفة عن أيّة عملية إرهابيّة يقوم بها إرهابيّون في سورية أو العراق ويرتكبون الجرائم بحقّ الأبرياء دون محاكمة أو سؤال أو جواب؟ وإذا قال الرّئيس ترامب أنّه أعدّ خطّةً للتّخلص من الرّئيس الأسد، هل هذه اللّغة تجعل ترامب أقلّ إجراماً من الّذي اغتال الرّئيس كيندي أو أنديرا غاندي أو باتريس لومومبا؟ وهل تصبح خطّة الاغتيال أقلّ إجراماً وإرهاباً من جرائم الاغتيال والتّفجير والقتل الإرهابية التي ارتُكبت ومازالت تُرتكب بحق المدنيّين أينما كانوا في العالم؟

وحين يكشف الجنرال الإسرائيليّ أمير برعام قائد المنطقة الشماليّة عن خططٍ لاغتيال السيّد حسن نصر الله هل هذا يجعله أقلّ إجراماً من الجولاني أو أيّ مجرمٍ آخر لا يعرف سوى القتل وسيلةً للتخلّص من الخصوم والأعداء؟ أوَ لهذا السّبب يرفضون ومنذ عقود تعريف الإرهاب؟ لأنهم لا يريدون الوقوف على حقيقة الأعمال الإرهابيّة وتوصيفها لأنها ستشمل الكثير مما يقومون به واّلذي يعطونه مسمّيات تتحايل على حقيقة الفعل وتوهّم المتلقّين بتصنيفٍ آخر أقلّ دمويّةً وإجراما.

ماذا تعني كلمة “اغتيال” أو “تصفية جسديّة” أو “التخلّص من خصم ما، مرّة وإلى الأبد” ؟ ألا تعني هذه التّعابير ارتكاب أعمال إرهابيّة بحقّ خصوم لم تقوَ على مقارعتهم ومكافحتهم فاستخدمت الأداة الإرهابيّة مغلَّفةً بغلاف لغويٍّ يوهم العالم أنّ لا علاقة لها بالإرهاب الإجراميّ المُدان واّلذي يدّعون محاربته؟

إذا ما أردنا أن نطبّق معيار البحث العلميّ الذي استخدمته جامعة براون على فلسطين المحتلّة والجولان العربيّ السوريّ المحتلّ سوف نجد أن كلّ ما تقوم به قوّات الاحتلال الإسرائيليّ من بناء جدران تعبث بالبيئة والجيرة والقربة والمجتمع إلى عبث بالمقدسات إلى هدم للمنازل إلى تغيير للطّبيعة الجغرافيّة والديموغرافيّة للبلاد، ترقى لأن تُصنّف بأبشع أنواع الإرهاب الذي عرفته البشريّة على مرّ العصور.

واليوم وفي الوقت الذي يروّج المطبّعون من الجانبين لقضّية خاوية وعديمة القيمة لأنّها لا تغيّر من واقع الشّعوب شيئاً ولا من توصيف الحقّ والباطل، علينا أن نركّز دراساتنا وأبحاثنا لفضح أساليب النّفاق والمنافقين وتخليص اللّغة من الابتزاز والتّشويه الذي يُلحقونه بها، وعلينا تسمية الأشياء بمسمّياتها والتّأسيس لعملٍ عالميٍّ يحترم عقول وذكاء الآخرين ويكشف لهم عمق وأبعاد الزّيف الذي مورس عليهم على مدى عقودٍ خلت.

النّضال اليوم يبدأ من جديد وعلى مستويات مختلفة وبروحيّة وعزيمة مختلفتين تستمدّ من انكشاف المنافقين والمتخاذلين قوّةً لا ضعفاً، لأنّ هذا الانكشاف يُلقي ضوءاً حقيقيّاً على الطّريق الصّحيح ويُقنع المُخلِصين أنّ المراوغة والتّستّر والكذب لا مستقبل لهم في معركة التّحرير، ويُطلق مسألة تحرير فلسطين والجولان وكلّ الأراضي العربيّة المحتلّة وتحرير الإرادة العربيّة من الوهن الذي اعتراها ليُطلقها إلى العالميّة؛ فالعالم اليوم يمرّ بفرصة ذهبيّة في مرحلة إعادة تشكّل.

فلنُعِدْ تشكيل عالمنا مع القوى الحرّة في العالم على أسس الصّدق واحترام الكلمة والعهد ونبذ الكذب والنّفاق، والاصطفاف مع كل من يشاركنا المُثُل والأخلاق والأهداف النّبيلة في الحريّة والكرامة والمساواة بين البشر.

* المصدر : الميادين نت

حول الموقع

سام برس