بقلم / محمد عبدالوهاب الشيباني
حين أكملت دراسة الصف الثاني الثانوي بمدرسة الثورة الثانوية بمدينة تعز صيف العام 1985، سافرت إلى مدينة صنعاء للمرة الثانية في حياتي، بعد أن سبق لي الصعود إليها ضمن فرق طلابية شاركت في احتفالات الذكرى الثانية والعشرين لثورة 26 سبتمبر في شهر أيلول من العام الذي سبقه (1984)، وفعلت بي تلك الزيارة فعل الإدهاش الكبير؛ رأيت صنعاء مدينة واسعة، وأكثر نظافة من تعز؛ مظاهر الحياة فيها أكثر حيوية، طبيعة المباني مختلفة، وكان لمظاهر الاحتفالات وزيناتها في الشوارع أثرها أيضًا في تعظيم هذه الصورة، التي بقيت منطبعة بذهني كنقش أحفوري، أتحدث عنها بنشوة وحماس لأقراني في الحارة والمدرسة؛ أحكي لهم عن الباص الكوستر الذي صعد بنا "نقيل سمارة" مقطورًا بعديد من باصات وسيارات نقل عسكرية حملت طلاب مرحلة ثانوية مختارين من مدارس تعز وإب، وعن منطقة "كِتَاب" التي وصلناها عصرًا ونفوسنا مفتوحة على غداء، وُعِدنا بتناوله فيها قبل وصولنا إليها بساعات، ولم نجد فيها غير سندويتشات يابسة ملطخة بجبن حامض، وعصائر رديئة، وماء وزِّع علينا في أكياس نايلون شفافة، عن مدينة ذمار التي لفحنا بردها الشديد، ونحن في زحام الباص العتيق، عن نقيل "يَسلِح" الذي صعدناه بمشقة؛ بسبب الزحام الذي امتد إلى نقطته الشهيرة، وعن "عطَّان" الذي وصلناه ليلًا وأسكنونا خيامًا في محيط معسكر التموين، وعن أَرُزٍّ جافّ وغير ناضج أطعمونا إياه مخلوطًا بحبيبات رمل، وصانونة "ماتكة" بلا طعم، عليها عظم مكسو بطبقة رقيقة من لحم بلاستيكي دسم بقيت رائحته عالقة بيدي لساعات، عن برد أول الشتاء الشديد الذي اخترق طرابيل الخيام العسكرية الداكنة ليصل إلى أجسادنا الصغيرة، ولم تَقِنا منه بطانيات عسكرية متسخة وزعت علينا بعد وصولنا مباشرة، حدثتهم. وعن فول أصفر وكُدَم "يابسات" أطعمونا به صباح يوم العيد قبل نقلنا إلى ملعب الثورة الرياضي، عن طريق طويل أوصلنا إلى الملعب المُشيَّد حديثًا، والتي هي الآن طريق الستّين. عن وقوفنا في باحات الملعب الخارجية بذات ترتيب الطوابير التي كنا نقفها في ملعب الشهداء بتعز أثناء التحضير للمشاركة في هذا اليوم التاريخي، حدثتهم.
ثم عن دخولنا الملعب للعرض بقمصاننا البيضاء المدعوكة التي أحضرناها معنا، وتاليًا المرور أمام منصة الرئيس وكبار مسؤولي الدولة في مدة لم تتجاوز الدقائق الخمس، والخروج السريع من بوابة مقابلة إلى موقف الباصات التي أقلتنا إلى المكان، والعودة بها، هذه المرة، عن طريق وسط المدينة إلى معسكر عطان.

حدثتهم عن مشاهدتي لمبنى "طيران اليمنية" الزجاجي الذي كنت أبصره قبل ذلك في أوتوغرافات السياحة وصور التليفزيون، عن نافورة التحرير المدهشة التي مررنا بقربها، عن تَركي للمخيَّم بعد أن أخذت كيس ملابسي البلاستيكي، ومرافقتي لأحد الزملاء الذي جاء أحد أقربائه لأخذه بسيارة أوصلتني معهما إلى شارع هائل، واكتفى سائقها بإرشادي إلى الطريق الذي سيقودني إلى مبتغاي وهو حي الجامعة، للوصول إلى المخبازة التي يعمل بها والدي. وصلتها بعد أسئلة متكررة، منبهرًا بالمكان في ذروة زحام الظهيرة، التي صادفت يوم إجازة بمناسبة ذكرى 26 سبتمبر.

أكرمني أحد أقربائي العاملين في المخبازة بغداء لذيذ وكثير، ثم أخذ من والدي مفتاح غرفته في سكن العمال القريب من المخبازة، الذي كان على بعد أمتار قليلة من بوابة كلية الآداب الجنوبية. قريبي الذي أوصلني إلى السكن أرشدني أيضًا لأول مرة إلى استخدام السخان الكهربائي الذي يوضع مباشرة في الوعاء البلاستيكي بعد توصيله بمقسِّم الكهرباء "الفيش"، لأتمكن من أخذ حمام بعد يومٍ ونصف من المشقة. بعد أخذي للحمام استرحت قليلًا في غرفة الوالد، الذي حضر بعدها، بعد أن أكمل عمله في فترة "المُغدّى"، وهي التسمية التي تُطلق على نوبة العمل ظهرًا في المطاعم والمخابز ومشتقة من ملفوظ الغداء.

منحني مبلغًا محترمًا، وأوصاني بشراء جاكيت يقيني من البرد، بعد أن رآني بقميص العرض الشبابي الأبيض، ودلني على سوق الملابس القريب أو ما يعرف حتى اليوم بشارع "التوفيق"، الذي يربط باب القاع "الكهرباء" بشارع جمال. كنت قد كونت فكرة عن جغرافية المكان قبلها، وعرفت كيف أصل إلى ميدان التحرير بخط مستقيم لا اعوجاج فيه، يبدأ من القاع وينتهي بالميدان. لم أشترِ الجاكت من شارع التوفيق، واشتريتُه من محل بقرب الميدان، الذي كان مزينًا ومزدحمًا بالناس. بقيت في صنعاء أيامًا معدودات، اكتشفت الكثير من شوارعها بقدميَّ، وعدت إلى تعز في باص النقل الحكومي من موقف باب اليمن الذي كان مزدحمًا أيضًا، واحتفظت من زيارة صنعاء تلك، بصورة شخصية وأنا بقرب مارد الثورة، وصور أخرى لم تمّحِ من الذاكرة لعامٍ كامل، كنت أستعيدها بكثير من النشوة والتباهي.

صعودي الثاني إلى صنعاء كان برفقة قريب لي، وكانت في الأساس لاستعادة صورة المدينة تلك، وزيارة الوالد، الذي كان ما يزال يعمل في ذات المخبازة "جهينة"، بالقرب من مباني جامعة صنعاء القديمة. لم يكن يخطر ببالي أني سأنتقل إليها بشكل نهائي إلّا حين قابلت ابن خالتي المحامي "عبدالكريم عبدالرحمن"، العائد لتوه من الولايات المتحدة الأمريكية، بعد رحلة دراسية قصيرة. كان موظفًا مرموقًا في مصلحة الضرائب، ويتهيأ للاستقرار الكلي في صنعاء برفقة أسرته التي أحضرها من القرية.

قال لي إن أخاه محمد عبدالرحمن سيصعد من الحديدة، وسيسكن لديه في المنزل لإكمال الدراسة الثانوية في صنعاء، فلماذا لا نتزامل، ونسكن معًا في منزله. الفكرة أعجبتني فنقلتها لوالدي الذي لم يمانع، وعززتها الوالدة لاحقًا بضغط من خالتي لول أم عبدالكريم ومحمد.

عدت إلى تعز وأخذت وثائقي الدراسية من المدرسة، وعمّدتُها في مكتب التربية، وعدت من جديد إلى صنعاء، وصعد محمد عبدالرحمن من الحديدة والتحقنا بمدرسة الكويت، حين كان مديرها عبدالوهاب الرميم، بعد أن قام أحد أقرباء عاملٍ في المخبازة بالذهاب إلى منزل قريبه الرميم للتوجيه باستيعابنا كطلاب جدد من خارج المدرسة، ومن خارج المدينة أيضًا.

وحتى أكون خفيفًا على مستضيفي، كنت أنهض باكرًا وأمشي من حارة "الذيبة" الواقعة بين شارع عشرين وهائل والدائري، حين كانت محاطة بمزارع دجاج وخضروات، إلى مخبازة جهينة لتناول الإفطار، وأخذ مصروفي اليومي من الوالد. كان المصروف لا يتعدى العشرين ريالًا في اليوم، ثم أركب باص الكوستر من فرزة القاع، التي كانت جوار المنتزه القديم مقابل وزارة الخارجية، وأنزل ما بعد جولة الشراعي بقليل، لأدخل جنوبًا من جوار سورَي مقبرة "خُزيمة" ومقبرة "الشهداء المصريين" وصولًا إلى المدرسة.

كان طابور المدرسة مهيبًا لكثرة الطلاب فيه، ولتلك الصرامة الشديدة لمدير المدرسة ومساعديه. كانت بلبلة الألسن في المدرسة تحيلك إلى كل اليمن تقريبًا، وكان المدرسون على قدر عالٍ من المهنية؛ كانت السنة الدراسية بالنسبة لي حياة جديدة، تنضاف لحياة المدينة وصخبها. كنت في بداية تكويني، وكانت عودتي ظهرًا إلى القاع عودة إلى عالم مدهش؛ زحمة المكان بطلاب الجامعة وطالباتها اللواتي يدخلن إلى كلياتهن من البوابة الجنوبية القريبة من السوق. الموظفون العائدون من وظائفهم ظهرًا، ويتجمعون في المطاعم والمقاهي القريبة، وكان لسوق القات "الصوتي" أو "السوطي" بلهجة صنعاء، المحاذي لسور الجامعة الجنوبي عوالمه الخاصة.
باختصار كانت الحياة المختلفة التي تأخذني لعوالمها العجيبة. كنت ألتقي بكثير من أهل قريتي الموظفين وطلاب الجامعة، وكان البعض منهم منخرطين في العمل السياسي بشكله السري والمرتخي آنذاك، ويتواجدون في هذا الوقت في محيط الجامعة، وكان منهم من يمدونني بكتب، كانت بالنسبة لي ملاذًا رائعًا للقراءة، عوضًا عن القراءة في الرياضة وأخبارها التي لازمتني في فترة إقامتي بتعز.

أتذكر من تلك الفترة أني كنت أعود من المدرسة راجلًا عن طريق شارع الزبيري بمعية زميل قديم لي من تعز، ووجدته -بعد سنوات- طالبًا في ذات فصلي، وأهم ما في العودة كانت المرور على نادٍ إثيوبي كان يشغر فيلاّ قديمة مقابل سور السفارة الصينية الشرقي، حيث كنا نستمتع بشرب القهوة ولعب تنس الطاولة، وشرط مرورنا على النادي أن تكون حصص الدراسة، في ذلك اليوم، أقل من معتادها الدائم.

كنت أتناول الغداء في المخبازة، ثم يعطيني والدي قليلًا من القات، حتى يُعينني على استذكار دروسي، وكانت تلك الفترة هي الأولى في تناولي للقات، حتى إن الوالد لم يكن يحب القات، ويكتفي بالقليل منه لجلوسه مع العمال، إن لم يدخل غرفته وينام، لهذا كان يشترى القليل منه ويمنحني نصفه. بدأت أدخن في تلك المرحلة أيضًا، حتى إن أحدى بنات خالي عبدالله حينما رأتني أُدخِّن بعد ذلك بأشهر وأنا مدير للمدرسة، قالت ستشكوني إلى أمها؛ فالقات والسجائر في منزل خالي عبدالله بتعز -كان ولم يزل- من المحرمات الكبرى.

أتذكر أنه في يوم باردٍ من يناير 86، وأنا في طريقي للمدرسة فوق باص عتيق، كان الراديو "إذاعة صنعاء" يعيد بث مناشدة علي عبدالله صالح لقادة الحزب الاشتراكي بعدن لإنهاء التقاتل، وأنه سوف يرسل قوات فلسطينية ويمنية للفصل بين القوات المتقاتلة، وما إلى ذلك من الكلام الفارغ، وكان بجانبي شخص بملابسه الشعبية الصنعانية، بدأ صوته بالارتفاع "الشوعيون أكلوا أنفسهم، وعبدالفتاح المخرِّب قتل، والحل أمامهم هو ما قاله الرئيس القائد". لم أتمالك نفسي، فرددت عليه بكلام قاسٍ للدفاع عن عبدالفتاح والحزب؛ الباص كله التفت إلي، فلم يتمالك أعصابه وبدأ بتهديدي، ويقول: "أنت شوعي من حق الحجرية ومخرِّب"، وأنه سيبلِّغ بي، وسيلاحقني للمدرسة، المهم أرعبني تمامًا. تدخُّلُ بعض الركاب لتهدئة الموقف لم يمنعه من مواصلة التهديد، فجأة توقف الباص لأحد الركاب، فنزلت بسرعة وجريت خوفًا باتجاه حواري مدرسة أروى حتى أختفي عنه. لم أصل إلى المدرسة في ذلك اليوم، ولأيام بقيت أصلها راجلًا من طرق مختلفة؛ خوفًا من مصادفته.

صادف اختبار الشهادة الثانوية في ذلك العام شهر رمضان، فكنا -محمد عبدالرحمن وأنا- ننظم برنامجًا للمذاكرة والسهر، تقينا من الوقوع في أي إرباك، حتى جاء يوم اختبار مادة اللغة الإنجليزية، حين أخذَنا النوم إلى ما بعد موعد بدء الاختبار بنصف ساعة، فنهضت مثل المجنون، ارتديت قميصي في الشارع، الذي لم يكن به أثرٌ لأحد، فبدأنا الجري ونحن في قمة الرعب، ومع أول مصادفة لتاكسي صعدنا معه بدون اشتراط. لا أدري كيف وصلنا المدرسة، وكنا خائفين مِن منعنا من دخول قاعة الاختبار غير أن مدير المركز الاختباري كان إنسانًا بمعنى الكلمة، قام بتهدئتنا، وأمرنا بغسل رؤوسنا بحنفية كانت في الساحة، ثم أدخلنا القاعة وشطب اسمينا من كراسة الغياب، وأتاح لنا وقتًا إضافيًّا لحل الأسئلة. أتمنى لو أستعيد اسمه وشكله.

ظهرت نتيجة الاختبار بعد ذلك بشهر تقريبًا، فوجدت نفسي ناجحًا بمعدل 70%، وكان عليّ تهيئة نفسي لأداء خدمة التدريس الإلزامي، في أول دفعة لخريجي الثانوية تُعفى من التجنيد في ذلك العام.

من صفحة الكاتب بالفيسبوك

حول الموقع

سام برس