بقلم/ احمد الشاوش
من عجائب الزمن ان بحر رجرج المؤدي شرقاً الى باب اليمن كان واحد من أشهر واندر احياء مدينة صنعاء القديمة ، الذي كان يسكنهً" ابناء "الخُمس" من فئة الجزارين وأصحاب المهن الضعيفة بحسب التركيبة السكانية في اليمن لحكم الائمة.

سكان حي بحر رجراج عنوان لجمال المرأة وعنفوان الرجل المكافح والبشرة البيضاء الموردة، تلك اللوحة الفنية النادرة لغزلان ذلك الحي المحب للبساطة والاريحية والرفاهية رغم العزلة السياسية والاجتماعية التي حكمت عليها بالانزواء خلف أسوار مدينة صنعاء القديمة ، نتيجة للفرز الطبقي والعادات والتقاليد والاعراف والنظرة الاجتماعية القاصرة والقوانين التي جعلت من ذلك الحي في الماضي أكثر عُزلة قسمت المجتمع الى سادة وعبيد وقضاة وفقهاء وجزارين ومزاينة وخدم ويهود وحرفيين ومهنيين.

يُحدثنا التاريخ انه في عام 1679م نفى الامام المتوكل ، اليهود الى موزع القريبة من المخا ،وبعد وفاة المتوكل سمح الامام الجديد لليهود بالعودة الى صنعاء وخصص لليهود أرضاً أطلق عليها " قاع اليهود" لبناء منازلهم وممارسة اعمالهم الحرفية بعد ان هجروا أسواقهم عنوة وتركوا فراغاً كبيراً بنفيهم فغابت الخبرات والمهن وتعطلت أعمال الناس وحركة الحياة.

وأما فئة " الاخدام" ، بواقي الاحباش فقد تم نفيهم الى منطقة عبس امتداداً للتقسيم الطبقي في المجتمع اليمني ، لاسيما بعد هزيمة الاحباش وطردهم والانتقام منهم بتحويل ماتبقى منهم للسخرة والقيام بالاعمال الدنيئة خدمة للمجتمع المنتصر ، كما جرت عليه العادة في الحروب العربية والاجنبية التي تحول المنتصر الى سيد والمهزوم الى عبد دون رحمة.

وعندما نغوص في الذاكرة الاجتماعية نجد ان بَحِر رَجْرَجَ ، حي سكنته عشرات الاسر المختلفة من الاتراك الذين أنصهروا في بوتقة المجتمع اليمني بعد هزيمة الجيش التركي الذي حولت اليمن الى مقبرة للغزاة ، وما ان حرر الائمة اليمن حتى وقع البعض من الاتراك وأعوانهم في الاسر وفضل البعض منهم البقاء في حي بحر رجرج والميدان وبعض أحياء صنعاء القديمة وعهد اليهم ببعض المهن المتواضعة والاستفادة من أصحاب الخبرات والعيش الى جانب بعض الاسر اليمنية مقابل البقاء على قيد الحياة.

ويرى البعض ان كلمة "رَجْرَجَ" في اللغة العربية تعني حركة واضطراب البحر، بينما في الثقافة الشعبية ترجع الى كثرة السيول المتدفقة من جبل نقم للحي واغراقه بالماء الذي حول الحي الى مستنقع ووحل اعاق سكان الحي من الحركة والنظافة خلال سقوط الامطار .

لذلك كان يضرب بإهالي بحر رجرج المثل في تدني الوضعية الاجتماعية وعدم الالتزام بالقيم والعادات والتقاليد، حتى قيل ان سكان صنعاء كانوا يطلقون على الشخص الوقح بقولهم " شربت من بحر رجرج" للتأكيد على السقوط الاخلاقي لتلك الفئات التي جنى عليها الزمن والقدر ان يعيشوا في الهامش رغم بساطتهم وطيبتهم لكن المعاملة السيئة والنظرة الاجتماعية القاصرة دفعت البعض الى القفز على التقاليد وولدت روح الغضب والتذمر والانتقام ، بينما اليوم تغيرت النظرة الاجتماعية والسياسية نوعاً ما بعد التعليم والحراك الاجتماعي وحركة التغيير التي هي سنة من سنن الله في الكون.

لقد وصل التمييز العنصري والطبقي والغرور والتكبر الى أسوأ الحالات من خلال ترديد المثل الشائع :

" دية الجزار الف كلب" ، في دلالة واضحة على التحقير والاستنقاص من انسانية الانسان والاذلال والانتقام الذي يُخالف الدين والشرع والقانون وقيم التسامح والتعايش بالعقاب والاذلال والانتقام ، كما وثقته كتب التاريخ لبعض مؤلفي السير وراصدي الامثال الشعبية.

لقد تغير الحال اليوم واختلط الحابل بالنابل وأصبح الحي خليط من أصول تركيه ويمنية ذابت فيه الفوارق نوعاً ما ، وأصبح بحر رجرج مجرد خاطرة في الذاكرة الشعبية لدى الكبار وفي بعض صفحات التاريخ المطوية والذاكرة المعطوبة لكبار السن ، بينما الواقع يردد اليوم قوله تعالى " ان اكرمكم عندالله اتقاكم .

أخيراً .. كم نحن بحاجة ماسة الى المحبة والاخوة واذابة الفوارق والمساواة والعدالة واحترام انسانية الانسان ، عملاً بالقرآن الكريم وتجسيداً للسيرة النبوية وترجمة للقوانين الانسانية واحياءاً لقيم التعايش التي تؤسس للمجتمع الفاضل والدولة الامنة .

حول الموقع

سام برس