بقلم/ السعد المنهالي
ما زلتُ أَذكر تمامًا تلك الأيام حين كنتُ -أنا ووالدتي- أزور "السوق القديم" في مدينة أبوظبي؛ مع أن كل الصور التي تستقر في ذهني من ذاك الزمن الذي يعود إلى أكثر من ثلاثة عقود، هي ليلية. والسبب: استحالة زيارة السوق نهارًا! فلقد كان مكشوفًا وجميع دكاكينه تطل على ساحة في العراء يُلهبُها الحرّ الشديد نهارًا والرطوبة ليلًا خلال جل أيام السنة. ولذا فإنها صور حالكة لا بهجة فيها.. سوى لحظات المغادرة .

لكنّ الحال ما لبث أن تغير نحو الأفضل فالأفضل؛ إذ انتشرت مراكز التسوق المغلَقة المبرَّدَة بمكيّفات الهواء، حتى أصبحت الإمارات العربية المتحدة من الدول الرائدة في هذا المجال على مستوى المنطقة العربية.. على أن الطقس الحار بقي على حاله. وليس هذا فحسب، بل أضحت أبوظبي على وجه الخصوص من أطيب المدن العربية مقامًا وأكثرها جذبًا للوافدين من كل بقاع العالم.. على أن الطقس الحار بقي على حاله (دائمًا).

وللنظام العمراني دور كبير في ذلك. فمنذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، أخذت المباني بمدينة أبوظبي تعتمد أنماط عَمارة مبتكَرة تقوم على مبدأ الاستدامة الذي يراعي مناخ المكان ويصون البيئة في آن.

ومع مطلع الألفية الثالثة، اتجهت إمارة أبوظبي نحو توسيع نطاق هذا النهج ليشمل مناطق أكثر وأكبر؛ لعل أبرزها "مدينة مصدر" التي تُعَد اليوم نموذجًا مثاليًا للمدن القائمة كليًا على تسخير قسوة الطبيعة وحِفظ البيئة وتلبية حاجات الساكنة.

وتم إنشاء "مدينة مصدر" من طرف "شركة أبوظبي لطاقة المستقبل" (مصدر) التي تحتفي هذا العام بالذكرى الـ 15 لتأسيسها.

وقد ظلت المدينةُ طيلة هذه الأعوام تشكل نموذجًا عمرانيًا يُحتذى في مجال الاستدامة على مستوى العالم. صُمِّمَت المباني ههنا وفقَ طراز معماري فريد يجمع بين الأصالة والحداثة؛ إذ شُيِّدَت من إسمنت منخفض الكربون وألمنيوم مُعاد التدوير، وتستمد طاقتَها النظيفة من ألواح شمسية على الأسطح. ويَقِلُّ استهلاكُها الكهرباءَ والمياهَ بنحو 40 بالمئة عن مثيلاتها في مناطق أخرى.

لا يَسع المجال هنا لحصر كل المزايا البيئية والتقنية والعمرانية لهذه المدينة التي تُوصَف بكونها "حاضنة عالمية"؛ إذ تؤوي مقرات العديد من المؤسسات والمنظمات المحلية والإقليمية والعالمية، من قبيل "وكالة الإمارات للفضاء" و"الوكالة الدولية للطاقة المتجددة" (آيرينا). كما أن أنها موطن لأكثر من 900 شركة، تعمل كلها على ترسيخ جهود الاستدامة والابتكار.

وتُقدم "مدينة مصدر" حلولًا نموذجية للحد من الحرّ المتنامي الذي تعانيه ساكنة الأرض؛ وهي مشكلة نتطرق إليها بالتفصيل الدقيق في عددكم هذا ضمن التحقيق المُعنوَن بِـ "من يوقف زحف القيظ؟". إذْ وردَ فيه أن للأجواء شديدة الحَرّ تداعيات وخيمة على المرء، "تؤثر في المزاج والسلوك والصحة النفسية". لكن مع وجود النبوغ البشري والاجتهاد، فإن الحَرّ يصبح بردًا وسلامًا علينا، ويكون الابتكارُ والإبداعُ مَصدرَ بهجتنا.. ليلًا ونهارًا.

نقلاً عن مجلة ناشيونال جيوقرافي
* رئيس التحرير

حول الموقع

سام برس