بقلم/ د.البدر الشاطري
يدور نقاش يومي حول الانسحاب الأمريكي من أفغانستان. الصورة العامة، أن هذا الانسحاب جاء متسرعاً ومتخبطاً وكارثياً في دلالاته، على صورة وسمعة أمريكا، وهناك قناعة تترسخ أن أمريكا لم تعد مؤهلة لقيادة العالم. فهل دخل العالم فعلاً مرحلة «ما بعد أمريكا»؟.

ورغم أن وجهة النظر أعلاه، فيها كثير من الصحة، إلا أن الموضوع يحتاج إلى شيء من التفصيل، والتركيز على الفوارق الدقيقة. الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، تم باتفاق بين واشنطن وطالبان، بعد مفاوضات مضنية في الدوحة، من قبل إدارة ترامب، والرئيس بايدن نفذ ذلك الالتزام. هل كان الانسحاب مرتبكاً؟ بالطبع، ليس بسبب التسرع، بل بسبب أن تواقيت الأحداث ضبطت من قبل طالبان، وليس واشنطن. فالأحداث في هذه الأحوال، لا تتطور بخط واحد مستقيم، ولكن بشكل متعرج، ويصعب ضبط إيقاعها. فالزخم كان سيد الموقف، والتطور التسلسلي والمنطقي للأحداث، ضربٌ من الأماني.

الانسحاب من أفغانستان، ليس دليلاً على دخول العالم إلى مرحلة ما بعد أمريكا، ولكن نتيجة لهذا التطور. فالعالم دخل إلى مرحلة ما بعد أمريكا منذ أمد. وقد كتب فريد زكريا، المؤلف الأمريكي-الهندي، وهو ابن المؤسسة الأمريكية، كتابه الشهير «عالم ما بعد أمريكا» في عام 2008. وهو العام الذي انتخب فيه باراك أوباما، على خلفية الأحداث في العراق، والإخفاق الذريع التي منيت به إدارة بوش الابن في ذلك البلد، الذي لا يزال يئن من الغزو الأمريكي.

وقد جاء أوباما - كما قال أثناء حملته الانتخابية - لا لينهي الحرب فحسب، بل لينهي العقلية التي أدت إلى الحرب. وقد شرع الرئيس الجديد في سياسته الجديدة، للتخلص من الالتزامات المتعددة في بعض المناطق. وأعلن الرئيس أوباما عن سياسة التحول إلى الشرق. وهي عبارة أسيء فهمها. والمقصود منها بإعادة التوازن إلى منطقة الباسفيك، مدفوعاً بهاجس تجاه السياسات الصينية، التي أقلقت حلفاء وأصدقاء الولايات المتحدة في منطقة شرق آسيا.

كما أن مفهوم عالم ما بعد أمريكا، يحتاج القليل من التفصيل والتدقيق. فالانحدار الأمريكي ليس انحداراً مطلقاً، بل بالعكس، فإن القوة الأمريكية في التصاعد. وما زالت الولايات المتّحدة القوة الأولى في العديد من المؤشرات. ولكن انحدارها، بلا شك، نسبي.



ففي وقت كانت الولايات المتحدة لها نصيب الأسد من الناتج الإجمالي العالمي، حوالي 40 % في عام 1960، أصبح اليوم يترنح بحوالي 15 %. ما يعني أن الولايات المتحدة لم تنحدر، ولكن الآخرين صعدوا، وعلى رأسهم الصين. وأصبح العالم الأحادي القطب، بعد سقوط جدار برلين، جزءاً من التاريخ. وعلى الولايات المتحدة اليوم أن تتشارك وتتقاسم وتتنافس في العالم، مع قوى جديدة صاعدة، والتي تكبل خياراتها.

ويقارن الانسحاب الحالي من أفغانستان، بالوضع في فيتنام، حين انسحبت الولايات المتحدة بعد حرب ضروس، خسرت فيها ما يربو على خمسين ألف جندي. والصور القادمة من كابول، تذكر بتلك المروحيات التي كانت تعلو السفارة الأمريكية في سايغون، بينما يحاول الفارون التعلق بها. وإذا ما ألقينا نظرة فاحصة، سنجد أن هناك فوارق مهمة. الحرب في فيتنام، تسببت بانشقاق كبير في المجتمع الأمريكي، وواجه النظام السياسي هناك أكبر أزمة شرعية منذ العصر التقدمي (1890-1920). ولكن حرب أفغانستان، كانت مبنية على الإجماع الأمريكي، وكذلك الانسحاب. هناك أصوات تنتقد الرئيس بايدن على الانسحاب من السياسيين في الحزب الجمهوري، رغم أن خطة الانسحاب ورثها الرئيس الحالي، من الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب.

ولكن ما تبعات الانسحاب من أفغانستان، بالنسبة للشرق الأوسط؟ هل سيكون لهذا الانسحاب تداعيات على المنطقة؟ تاريخياً، انسحاب أمريكا لا يعني بالضرورة الانسحاب من كل العالم، وكل المناطق. فالولايات المتحدة انسحبت مدحورة من فيتنام في عام 1975، ولكن التزاماتها مع اليابان وكوريا الجنوبية، ظلت ثابتة، كما ظلت مستمرة في غرب ووسط أوروبا، في مواجهة للاتحاد السوفييتي. وعندما تحدت إيران سطوة أمريكا في الشرق الأوسط، مطلع الثمانينيات، واجهته بدعمها للعراق، والذي أوقف تمدد إيران في المنطقة. وحين قام صدام بغزو الكويت في عام 1990، أرسلت الولايات المتحدة 500 ألف جندي لتحرير الكويت، وتحجيم العراق في حدوده، وأوثقت الخناق عليه.

الاستراتيجية الأمريكية واضحة في شأن الشرق الأوسط والخليج العربي. ولفهمها، يجب أن نفرّق بين درجات من المصالح المتعددة، كما يراها الاستراتيجيون. فهناك مصالح حيوية، وهناك مصالح رئيسة، وهناك مصالح ثانوية.

الشرق الأوسط يمثل مصالح حيوية ومصالح رئيسة. أمن إسرائيل جزء من بنية الثقافة السياسة الأمريكية، وجزء من المشهد السياسي الأمريكي الداخلي. الخليج وتدفق النفط، يمس بالنظام الاقتصادي الدولي، والذي تلعب فيه واشنطن دور المهيمن، لتعزيز استقرار أسواق الطاقة. والولايات المتحدة، هي القوة التي تستطيع إعادة التوازن إلى أسواق العالم المالية، وصاحبة العملة الأولى في العالم (الدولار)، والقوة العسكرية الأقوى والأكثر تقدماً تكنولوجياً. هذه المصالح الاستراتيجية الكبرى، ستمنع الولايات المتحدة وطوافاتها من الهروب من المنطقة. ومبدأ كارتر ما زال فاعلاً، والذي هدد باستخدام القوة النووية، إذا ما تعرض أمن الخليج إلى التهديد.

albadr66@hotmail.com

نقلاً عن البيان

حول الموقع

سام برس