بقلم/ عبدالباري عطوان
كَبيرةٌ يا سورية.. لماذا نَجزِم أنّ مُرور الكهرباء الأردنيّة والغاز المِصري إلى الشّعب اللبناني لإنقاذه من أزَماته هَزيمةٌ “صُغرى” تمهيدًا لـ”الكُبرى” لأمريكا وأدواتها القادمة حتمًا؟

أثبتت الدّولة السوريّة مُجَدَّدًا بأنّها “كبيرة” وتعلو على الجِراح، وتترفّع على الصّغائر، بمُوافقتها على طلب الوفد اللّبناني الزّائر بمُرور الغاز المِصري والكهرباء الأردنيّة، عبر أراضيها إلى لبنان لمُواجهة الأزمة المعيشيّة الطّاحنة التي يعيشها حاليًّا بسبب انعِدام المحروقات، وانقِطاعٍ شِبه دائم للتيّار الكهربائي، ممّا تسبّب في توقّف خدمات المُستشفيات، والمطاحن والمخابز، وكُل أوجه الحياة الأُخرى.

إذا أعطينا الفضل لأصحابه، فإنّ الموقف الشُّجاع والمُتَحَدِّي لأمريكا وإسرائيل الذي اتّخذه السيّد حسن نصر الله، زعيم “حزب الله”، باللُّجوء إلى النّفط والغاز الإيرانيين لإنقاذ البِلاد، وحماية ناقلاته بالقُوّة، هو الذي دفع السيّدة دوروثي شيا، السّفيرة الأمريكيّة في بيروت التي كانت حتّى اليوم الحاكمة بأمْرِهَا في البلد، إلى التّراجع مُكرَهةً عن تعنّتها، وحُكومتها، والهَرولة إلى الأردن ومِصر بحثًا عن الحُلول البديلة وكسر الحِصار الأمريكي المَفروض على سورية تحت ما يُسَمَّى بقانون “قيصر” ممّا يُؤكِّد على هشاشته، ونجاح سياسة الصّبر الاستراتيجي في التّعاطي معه.

الجِهات اللبنانيّة، أو بالأحرى أدوات أمريكا في لبنان، التي تتلقّى تعليماتها من السّفيرة المذكورة، وظلّت تُعارض أيّ تعاون مع سورية، واعتبرت زيارة أيّ وزير لبناني لعاصمتها “أُمّ الكبائر” طِوال السّنوات العشر الماضية، يجب أن تَشْعُر بالخجَل، وأن تعتذر إلى الشّعبين اللّبناني والسّوري على مواقفها الحاقدة والعُنصريّة وقصيرة النّظر، وفرض المُقاطعة بالتّالي على دولةٍ شقيقة وقفت دائمًا في خندق الشّعب اللّبناني، وضحّت بالكثير من دماء أبنائها وأرواحهم لحماية وتعزيز سيادة بلاده واستِقلاله والحِفاظ على وحدته.

لولا حِلف المُقاومة، وتضحيات “حزب الله” لكانت الدّولة الإسلاميّة (داعش) هي التي تَحكُم لبنان الآن، وبمُباركةٍ أمريكيّة، ولإشغال مُقاومته وسِلاحها الاستِراتيجي في معارك وحُروب استنزافٍ أهليّة، لتَحويل أنظاره عن الهدف العُروبي الإسلامي الأساسي المُشَرِّف، أيّ مُواجهة الاحتِلال الإسرائيلي.

السّلطات السوريّة لم تتعامل مع الوفد اللبناني الزّائر للعاصمة السوريّة اليوم بنظريّة “التّعامل بالمِثل”، ومِن مُنطلقات الحقد والثّأريّة، وتناست عشر سنوات من المُقاطَعة، وشتائم البعض وتطاولاته، واستَقبلت الوفد اللّبناني الذي ترأسته السيّدة زينة عكر، نائبة رئيس الوزراء وزيرة الدّفاع والخارجيّة، كوَفدٍ شقيق، وعلى أعلى المُستويات، ووافقت دون تَرَدُّد على جميع مطالبه حِرصًا على مصالح الشّعب اللّبناني، بكُلّ طوائفه، دُونَ أيّ تمييز طائفي أو عِرقي، رُغم أنّ القِيادة السوريّة تَعرِف بأنّ هذا الوفد لم يَجرُؤ على عُبور الحُدود إلا بضَوءٍ أخضر أمريكي.

القِيادة السوريّة التي اتّخذت هذه الخطوة الكريمة والحكيمة والشّجاعة، من مُنطَلقاتٍ عُروبيّة وإنسانيّة، كاظمة للغيظ، ومُتَرفِّعةً عن الثّأريّة، والأحقاد التي تُعَشِّش في قُلوب وصُدور الطّرف الآخَر، كشفت ضآلة، وصِغَر وفشَل، السّياسات الأمريكيّة وأدواتها في لبنان، وساهمت بدَورٍ كبير في إنقاذ البِلاد من أزمةٍ حادّة بوجهين: الأوّل سياسي عسكري أمني، والثّاني معيشي إنساني، ولا نُبالغ إذا قُلنا أنّها منعت، أو أجّلت، حربًا أهليّة طاحنة، وأخرست كُلّ الأصوات اللبنانيّة الطائفيّة المُتَشنِّجَة والعميلة للقِوى الخارجيّة.

السّفيرة الأمريكيّة في لبنان التي حنّ قلبها أخيرًا على الشّعب اللّبناني بعد أن وصل الجُوع إلى 80 بالمئة منه، وباتت الحياة فيه بحُدودها الدّنيا مُستحيلة، وهروَلت إلى الأردن ومِصر طالبةً “طوق النّجاة” لمنع وصول ناقلات النّفط الإيرانيّة إلى لبنان مُحَمَّلةً بالمازوت والبنزين والديزل، برّرت كُل ذلك بحِرصها على مُساعدة الشّعب اللّبناني، ولكنّها هي التي اختَرقت قانون “قيصر” العُنصري الفاشي، لم تَذرِف دمعةً واحدةً تَعاطُفًا مع أكثر من عِشرين مِليون سوري يُواجِهون الجُوع والموت تحت الحِصار الأمريكي، وبفِعل انتِشار وباء الكورونا.

شُكْرًا لسورية قيادةً وحُكومةً، وشُكْرًا للسيّد نصر الله وإدارته الذّكيّة والمَسؤولة للأزمة، وخطواته الشُّجاعة بالاستِنجاد بإيران ومحروقاتها التي لم تتَردَّد لحظةً في الاستِجابة وتلبية النّداء، بينما وقف مُعظم الذين “تعوم” بلادهم وحُكوماتهم على بُحورٍ من النّفط والغاز في الخليج، موقف الشّامت بمُعاناة الأشقّاء في لبنان، من كُلِّ الطّوائف والأعراق، ولم يُرسِلوا بِرميلًا واحِدًا لهُم لإنقاذهم من محنتهم.

بعد هزيمة أمريكا المُذِلَّة والمُهينة في أفغانستان، ها هي تُواجِه هَزيمةً “صُغرى” على أيدي محور المُقاومة ورجاله، كمُقَدِّمة لهَزيمةٍ كُبرى قادمة في العِراق وسورية وفِلسطين أيضًا… والأيّام بيننا.

نقلاً عن رأي اليوم

حول الموقع

سام برس