سام برس/ تونس/ شمس الدين العوني
نصير الشيخ
شاعر وناقد عراقي

يظل الفنان في رحله بحثه المستمرة عن لقىً متميزة عبر سبره لاكتشاف مناطق جديدة وجغرافيا أكثر إبهاراً في عالم الفن مرافقة تحولاته ورؤاه وأفكاره ومن ثم قدرته التعبيرية على إبتكار ماهو محدث، وتحويل الفكرة المجردة إلى عمل جمالي ناطقٍ، يترك أثره في نفس المتلقي ومشاهداته ويثير فيه على الدوام قدرة التساؤل وشحن الأسئلة.

والفنانة التونسية " نسرين الغربي" المتحصلة على دكتوراه في علوم وتقنيات الفنون ( إختصاص فسيفساء) تحضراليوم بمعية أعمالها الفنية، يسكنها هاجس التعبير بأقصى درجاته عبر تنفيذها زهاء عشرين " لوح فسيفسائي" متعدد القياسات،إنجز بتقنيات مختلفة ضمها معرضها الشخصي الذي أقيم على رواق " المعهد العالي للفنون والحرف بصفاقس" والذي افتتح في 17 أيلول2021 ولغاية 23ايلول 2012، وتحت عنوان " نبض الحجر".

سعت الفنانة" نسرين الغربي" إلى استثمار كلما يحيطها من موادٍ وخامات يضمها المحيط الطبيعي وبكل تنوعاته إلى تقديم تشكيلات فنية لونية عالية الجودة عبر أعمالها الألواح الفسيفسائية المتعددة القياسات وبتقاناتٍ مختلفة، شكلت الخامات الصلبة الصماء مادة أولية لهذه الأعمال ،خاماتٍ تنوعت بين " الحجر والرخام والبلور والكرانيت"..

استطاعت الفنانة عبر تشكيلها الفني هذا من بث روح الجمال في هذه الخامات وتطويعها بالشكل الحامل لدلالاته. ألواح فسيفسائية تشكلت إيقاعيا محدثة أنساقاً وايقاعات تداخلت وتشابكت في حركة ديناميكية وازنت بين الشكل والمضمون مانحة رؤانا تواصلا بصرياً حميميا مع هذه التراكيب بموادها الصلبة، وبما توافر لها من قدرة وإنجاز على إستنطاق هذه الخامات وبثها روحاً جديدة لتصبح أعمالاً فنية أخذت حيزها في مكان العرض، لتعانق الفضاء المشترك بينها وبين المتلقي،تدعوهُ لحوارٍ بصريّ دائم، ذلك أن المواد المستخدمة هي ماتستوقف الرائي/ المتلقي وتقيم معه حواراً متضمناً أسئلة وإستفهامات في محاولة منه لجس روح اللوح الفسيفسائي عبرمحاولة لمسهِ، بفعل شدها للمتلقي وبث روح التفاعل المباشرمعها في صالة المعرض، مثيرة عبر المجال البصري قدرة التفاعل على تفحص هذه الأعمال وفهم عوالمها،وسبرأغوارها،عبر جدال بصريّ لغته " الحياكات ومعانيه الألوان الحاملة عبر أبعاده الهندسية والمكانية وفضاء العرض، منتجاً لنا تأويلاتٍ عدة ودلالاتٍ ذات أثر discourspolysemique.
و" حياكات" هي المصطلح الجامع للأعمال المنفذة للفنانة " نسرين الغربي" والمعروضة في معرضها الشخصي" نبض الحجر" وهي الأعمال قيد الدراسة هنا بين أيدينا،ومفردة " حياكة" هي " اسم بمعنى الخياطة"وتأتي هنا على وفق رؤية الفنانة " نسيج من الحجر"..

ففي القطعة/ اللوح المعنون " إختراق" نكون امام لوح مستطيل تتوسطه إنبوبتان بارزتان عن سطح الخامة، هذا اللوح يشي بأنه " رقيم طيني مفخور" يشيرالى حضارة وادي الرافدين كأثر تاريخي، عبر استدعاء الذاكرة واستلهام الموروث في الفن بصيغته الأنسانية.


تواصلُ الفنانة" نسرين الغربي" متوالية العرض الفسيفسائي في شريط " حياكي" متضمنا ألواحها بكل أبعادها وأغوارها وبنيتها التكوينية عبرإستدعاء المحيط الدافعي عبر استخدامها " الخامات الصلبة" وأعادة انتاجها فناً مبدعاً حاملا بصمتها المائزة،مؤكدة لنا وللمتلقي أنه يمكن صنع عالم خلاق في عالم الفن من صلابة الأشياء تنوع الخامات بصيغ جمالية تترك أثرها المتميز.

تطويع المادة الخام في الواحها الفسيفسائية حملت أنساقاً فكرية إستجلبها فكرها المنفتح على حداثات الشكل الفني في العالم،ومن ثم وعيها بضرورة خلق أشكال جديدة ومحدثة..فيالنظرالى الكون والكواكب والجبال والصخوروعناصر الطبيعة جميعها،ساعية لتخليق بيئة مشابهة لها كخاماتٍ ومفارقة عنها كخلقٍ في أعمالها يحمل سمة التميز والفرادة،ويضعنا على الدوام أمام دهشة التلقي وغرابة الأشكال والتكوينات وهي تسبح في مجالها البصري.


أنساق بنائية حملتها ألواح نسرين الفسيفسائية وعلى إيقاع جمالي متداخل،استدعى مفاهيم " التكراروالتقابل والتفتت والأختراق" تجعل من العين الباصرة تتقلب في دهشتها وهي تتفحص هذه الألواح عبر ديناميكية حرصت على التوازن للجمع بين الشكل وحداثته والمضمون وأغواره، جاء هذا على وفق إدراك منها أثناء عمليات تنفيذ أعمالها لفضاءات العمل الفني وتوزيع الكتل وتطويع اللوحة على مساحة الخامة، ومن ثم التدرج اللوني المصاحب لفكرة العمل والمتصادي مع الذائقة الجمالية في قدرة التلقي والمشاهدة.

ألواح فسيفسائية للفنانة "نسرين الغربي" هي (( تناولات تركيبية تتباين بين التجريد والإيحاء والتشخيص)) مكونة لنا عالم يمنحنا تأمل من نوع خاص،وهي تستنطق خاماتٍ صلدة،محورة أشكالها عبر إعادة تركيب أجزائها ومجزوئاتها في أشتغالها المنظم المنبعث من ذات الفنانة وأناملها على حد سواء.

كل هذا تجلى في الجمع الفني بصيغته الجمالية، وربما هو من زاوية أخرى "جمع هجين بين مادتي الحجر والبلور"...وما يتصفان به من صلابة وجمود.لكن للفنانة رأي آخرعملت عليه بقدرتها التعبيرية وأفق خيالها الخصب على تركيب فني خضع لمنطق التزاوج للمواد الخام التي أنتجت لنا عوالم وقطع فنية مبهرة، و إجتماع ربما ماهو متضاد مع الآخر في تأكيدها على أنتاج ما يمكن انتاجه مهما كان نوع المادة والخامات المستخدمة!!

ألواح فسيفسائية حملت أبعادها الهندسية تحت عنوان " نبض الحجر" تكسوها المهارة التزينية للون في توزيع مبهر كعنصر أساس من مهمته التوصيل حاملا رسائله المشفرة،يحضر هنا متجلياً في فضاء العمل والعرض، بقدرته على الأنوجاد على السطح البصري ومكملا لمساحاتهِ، محققاً حضوره الفاعل في إحداث لذة جمالية لها هزتها في ذات المتلقي،مستشعرة قيماً راسخة لمعنى الفن، ومثيرة في نفس الوقت أسئلة الحضور النوعي لحداثة الأشكال المعروضة،وان حملت صدمة التلقي الثقافي بمحمولاته الفكرية والفلسفية والجمالية.

حول الموقع

سام برس