بقلم/ سعاد فهد المعجل
اللغة أي لغة، هي بحر عميق من المعاني والإيماءات والتأويلات، لذلك يزخر التاريخ العقائدي منه والمدني باختلافات فكرية مَبْعَثها أحيانًا يكون في تأويل أو تفسير مُفرَدة وردت في رواية أو حادثة أو قصة، وقد واجهت قديمًا قراءة الأناجيل بالتحديد هذه المعضلة في تأويل المُفرَدة، خاصة في حقبة الإصلاح الديني الذي تضاعف فيه المُفسرون الى أن حَل عصر الأنوار واتسعت معه مسألة التأويل لتَشمَل النصوص الأدبية بالإضافة الى النصوص الدينية وليخرج معها المفكّر الألماني شلاير ماخر بكتابه «آليات التأويل وتعدّد القراءة»، الذي تجاوز فيه من حيث المبدأ النص الديني لغيره وتركيز الاهتمام على البُعد اللغوي وعلى العلاقة المُشتَرَكة بين المؤلف والقارئ.

إضافة الى ما ساهمت به مسألة صعود التيارات العقلانية في الفلسفة الغربية من اتساع في دائرة تأويل المُفردات خاصة مع المُطالبة آنذاك بِعَقلَنة المقولات الإنجيلية.
في الأسبوع الماضى نشر أحد كُتَاب الإسلام السياسي مقالًا تَهَكّميًا موجّهًا الى من أطلَقَ عليهن مُفرَدة «حريم الكويت»، وقبل الدخول في تفاصيل ذلك المقال الجارِح، علينا التوقّف قليلًا عند تأويل ودلالات مُفرَدة «حرمة» بشكل عام، فهنالك تفاوت لغوي في معنى «حرمة» خاصة على مستوى اللهجات العربية، فهنالك شعوب تستخدم المُفرَدة بقصد ازدراء أو تقليل من المكانة أو المنزلة الاجتماعية، الى درجة أنها تَحَوّلت مع مرور الزمن الى أسلوب للسباب والشتيمة تُطلَق أحيانًا حتى على الرجل الضعيف أو المُستَكين، بينما تستخدمها شعوب عربية أخرى لتعني انحداراً في القيمة الأخلاقية.

أما في المجتمعات الخليجية فقد تم ومنذ الطفرة الاجتماعية التّخَلّي تمامًا عن هذه المُفرَدة لِتُصبح مع الزمن أسلوباً للتهَكّم أو للتقليل من المكانة التراتبية في المجتمع.

اليوم، ليس في المجتمع الخليجي مجلس حريم، ولا باب حريم، ولا مدخل حريم. سَقَطَت كل هذه المُفردات وتحوّلت الى مفاهيم رجعية لا تتناسب مع ما حقّقته المرأة من مُكتسبات ولا مع ما حَمَلَته من مسؤوليات وطنية وسياسية وتربوية، لذلك لا يمكن لأي من قرأ مقالة كاتب الإسلام السياسي إلا واستنتج أو قرأ بين السطور ملامح التهكّم والاستهزاء والتقليل من شأن ومكانة المرأة بشكل عام وذلك بالإشارة إليها بمُفرَدة حريم الكويت.

المقال من حيث المحتوى خرج بحصيلة وافرة من حيث التناقضات والمُغالطات التي لم تخلُ من ملامح الانتهازية التي يشتهر بها تيار الإسلام السياسي، الذي أدمن استخدام المرأة سياسيًا في كل انتخابات منذ إقرار حق المرأة السياسي في الكويت، وبالطبع لم يخلُ الأمر من بهارات لفظية تدعو الى التهكّم والهجوم على الليبراليين باعتبارهم أداة من أدوات تشويه فكر المرأة الكويتية ودفعها الى تكرار عبارات وشعارات أكل عليها الدهر وشرب، وكما لو كانت مُفردة حريم التي استخدمها كاتب الإسلام السياسي هي من الشعارات الحديثة والمتطوّرة، التي لم يأكل عليها الدهر ويشرب طويلًا.

الحقوق التي حقّقتها المرأة الكويتية، والتي جاء ذكرها في المقال لم تكن لتَتَحَقّق لو أن المرأة بَقيت «حرمة» وفقًا لمنظور الإسلام السياسي، فما حقّقته سياسيًا واقتصاديًا وفكريًا وأدبيًا وفنيًا واجتماعيًا جاء كَحَصاد مُستَحَق لِغَرسٍ بذرته أيدي سيدات كويتيات فاضلات ليُثمر اليوم حصادًا شارك في جَنيِه الجميع وبمن فيهم تيارات الإسلام السياسي، حصادًا أينعت براعمه في بطلات وشهيدات الكويت حين كان الإسلام السياسي وأتباعه يُفاوضون صدام حسين وأعوانه في لاهور وغيرها.

نعود للغة ومصادرها وتأويلاتها لِنَقِف على روايات حول تاريخ استخدام مُفرَدة «حرمة» بدلًا من امرأة أو سيدة، حيث تقول إحدى الروايات إن المنطقة العربية لم تعرف لفظة حرمة إلا في عهد متأخر من القرن الرابع عشر من الهجرة، وإن هذه المُفرَدة لم تنتشر عند العرب إلا بعد القرون الأولى التي تم فيها وضع معاجم اللغة العربية، وإنها كمُفرَدة قد زاد انتشارها مع تخصيص سلاطين الأتراك العثمانيين مكانًا خاصًا للنساء والجواري عُرِفَ باسم الحرملك.

وبما أننا قطعًا قد تجاوزنا حقبة الحرملك، يكون من الطبيعي أن تَستَفز مُفرَدة حريم الكويت التي استخدمها الكاتب الفاضل في حديثه عن سيدات الكويت الفاضلات، لكن يبقى في نهاية الأمر المغزى الحقيقي في قلب الراوي أو الكاتب كما يُقال.

نقلا عن "القبس"

حول الموقع

سام برس