الدكتور /علي أحمد الديلمي
النظام الدولي المعاصر الذي يأخذ الطابع الفوضوي والصراعي أكثر مما يأخذ طابع النظام والتعاون والمساواة بين الدول وذلك رغم التغيرات الكبيرة التي شهدها من الناحية الشكلية والبنيوية بظهور فواعل متعددة الى جانب الدولة ساهمت بشكل نسبي في بناء الأمن الدولي مثلما هو الحال لمجلس الأمن أو بعض المنظمات الأمنية الاقليمية لحلف شمال الأطلسي وغيرها من التحالفات غير أن بعض القوى الدولية تبقى جزء من مشكلة غياب الأمن الدولي في ظل تقديم مصالحها الاقتصادية وأمنها القومي المرتبط بتلك المصالح على أمن النظام الدولي المشترك

جميعنا نعلم بان القرن العشرين بأكمله كان عصر الايديولوجيات بامتياز حيث كانت الايديولوجيا كامنة بقوة في الحربين العالميتين وفي التطور المدني لمختلف المجتمعات والنظم الثقافية الكبيرة في العالم فظهرت الفاشية والنازية والشيوعية في معارضة للايديولوجيات الليبرالية والمحافظة ومثل الصراع بين هذه الايديولوجيات التمثيل الفكري للحروب والصراعات على مستويات السياسة واخيرا فان دور السياسة ارتبط بصورة حميمة ببروز المجتمع الجماهيري ابتداء بالثورة الاميركية ثم الفرنسية فهل أصبح مستقبل الظاهرة الايديولوجية في العلاقات الدولية في حكم المنتهي في عصرنا الحالي ومع ذلك فإن ما لا يمكن انكاره هو قوة المقاومة لهذه النزعات والسياسات الأيديولوجية وتأثيرها على معظم النزاعات والصراعات العالمية .

بعض علماء العلاقات الدولية أطروحاتهم مفادها أن تراجع النفوذ العالمي للولايات المتحدة وصعود قوى غير ليبرالية إلى حد كبير مثل الصين يهددان القواعد والمعتقدات الراسخة للنظام العالمي القائم على الحكم الليبرالي الذي يعتمدعلى ثلاث ركائز للنظام السائد التي يدعمها ويعززها الغرب وهي العلاقات الدولية السلمية (المعيار الويستفالي) والمثل الديمقراطية ورأسمالية السوق الحرة

يري ستيوارت باتريك أن القوى الناشئة بما في ذلك الصين غالبًا ما تعارض القواعد الأساسية السياسية والاقتصادية للنظام الليبرالي الغربي الموروث وتجادل اليزيبث ايكونوميك بأن الصين أصبحت قوة ثورية تسعى إلى إعادة تشكيل المعايير والمؤسسات العالمية في المقابل يؤكد أميتاي أن مثل هذا النظام العالمي لم يتم توحيده بالكامل مطلقًا وأن الفرضية الكاملة القائلة بأن الولايات المتحدة هي البطل والحامي لنظام عالمي قائم على القواعد الليبرالية وتواجه دولًا غير ليبرالية لا توافق على ذلك وتحتاج إلى التشجيع لقبول المعايير السائدة حقًا إنه جزء من التحدي الأيديولوجي لشرعية سياسات وأنظمة الدول الأخرى ممزوجًا بقدر من التهنئة الذاتية.

ويعتقد المحلل السياسي الروسي ليونيد غرينين أنه على الرغم من جميع المشاكل ستحتفظ الولايات المتحدة بالمكانة الرائدة في نظام عالمي جديد حيث لا توجد دولة أخرى قادرة على تركيز العديد من وظائف القادة ومع ذلك فهو يصر على أن تشكيل نظام عالمي جديد سيبدأ من حقبة تحالفات جديدة.

كما دعا الزعيم الصيني شي جن بنغ إلى نظام عالمي جديد في خطابه أمام منتدي يواو في أبريل 2021 وانتقد القيادة الأمريكية العالمية وتدخلها في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وقال إن القواعد التي تضعها دولة أو عدة دول لا ينبغي أن تُفرض على دول أخرى كما يجب ألا تعطي الأحادية للدول منفردة إيقاعًا للعالم بأسره

أوروبا هي بؤرة الحروب الأكبر في التاريخ الإنساني الحديث والسلْم الذي عاشته القارة في العقود القليلة الماضية كان سلْمًا استثنائيًّا ولكن وبالرغم من أن هذه الأزمة الأوروبية في حرب روسيا على أوكرانيا هي الأكثر تعقيدًا منذ الحرب العالمية الثانية فإن حلًّا تفاوضيًّا يحفظ ماء وجه الطرفين لم يزل ممكنًا
 
إن لم يحدث التوصل إلى حل تفاوضي فالأرجح أن الساحة الدولية ككلٍّ ستتحرك نحو تبلور ثلاث دوائر من النفوذ روسية وصينية وأورو أطلسية على أساس أن من المبكر جدًّا توقع قيام تحالف روسي صيني ولكن الحدود الفاصلة بين هذه الدوائر ستظل مرنة نسبيًّا نظرًا لمحاولة الأطراف المختلفة جذب حلفاء جدد .

بات من الواضح اليوم ان معظم الدول في العالم تعيش حالة أرتباك واضحة في تحديد أهدافها وتحالفاتها ولعل أهم الاسباب في ذلك هي طبيعة التطور التكنولوجي والذي أتاح التواصل والترابط في العلاقات الدولية في كل المجالات والتي يمكن القول أن التكنولوجيا اليوم لها تأثير كبير وواضح في النظام العالمي الجديد .

لاشك أن التكنولوجيا الذكية هذه المنصة الذكية التي تتعامل مع الانسان وكل مايدور حول الانسان وهي أحدث تكنولوجيا تستطيع أن تخاطب كل أنسان على وجه الأرض وستنقل الانسان نقلة غير عادية وتحدد خيارات جميع البشر في التعامل مع مختلف القضايا التي تهم جميع البشر

أن تطور الانترنت في المستقبل سيبرز العديد من العباقرة من جميع دول العالم عبر شاشة الكمبيوتر ومن المؤكد أن ملايين البشر سيتابعونهم بشغف وربما يؤثر الأمر برمته على تطوير الجنس البشري سيتغير الانترنت بصورة سريعة للغاية لدرجة أن المستخدمين لن يتمكنوا من ملاحقة هذا التغير السريع وذلك بالإتساق مع التطور التكنولوجي بمعدلات غير مسبوقة فهل مع هذا التطور يتحول العالم إلي شبة نظام تحكمه التكنولوجيا من خلال هذه الوسائل الجديدة و يتركز اليوم النقاش في الأوساط الاستراتيجية والاستخبارية حول أن تكون الحرب في أوكرانيا بداية نظام دولي جديد؟ 

أن العالم اليوم كله متداخل اقتصاديا وهناك علاقات تجارية متعددة منها العلاقات الروسيةا لصينية والروسية الأميركية بالإضافة إلى العلاقات الروسية الأوروبية لهذا فإن تأثير العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا يتوقف على عدة عوامل أولها حجم التبادل التجاري بين روسيا والدول الفارضة للعقوبات فكلما زاد حجم التبادل كان تأثير العقوبات أكبر وستكون روسيا أشد عزلة عن الاقتصاد العالمي وكلما ارتفع عدد الدول المشتركة بالعقوبات والمنضمّة إلى المعسكر الأميركي زاد تأثير هذه العقوبات على روسيا.

الأمر الأخر يتعلق بالشأن الروسي الداخلي فكلما كانت الجبهة الروسية الداخلية متينة وقوية انخفض تأثير العقوبات عليها لكن بطبيعة الحال أن العقوبات الاقتصادية الأخيرة ستكون ذات تأثير كبير لأن الإجراءات الغربية تشمل فرض عقوبات ومنع سفر وتجميدا لأرصدة المزيد من البنوك ورجال الأعمال الروس ومسؤولين كبار في قائمة تضم الرئيس بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف وكثير من رجال الاعمال الروس حول العالم .

كما تنص العقوبات الغربية على وقف جمع الأموال في الخارج وتعليق مشروع خط الغاز نورد ستريم2 الذي يمتد إلى ألمانيا وتبلغ تكلفته 11 مليار دولار بالإضافة إلى الحد من قدرة روسيا على الحصول على المواد ذات التقنيات الفائقة وهذا يؤكد على قوة تأثير العقوبات وأهمية التكنولوجيا في سرعة تنفيذها

حتى الآن وعلى ضوء ما وقع في الحرب الروسية على أوكرانيا وعلى ضوء ما تسببت فيه لا سبيل أمامنا لتوقع عالم أفضل فى قريب الأيام إلا بتغيير جذرى فى هيكل النظام الدولى القائم بما يسمح بصياغة عقد عالمى جديد يعتمد العدالة والمساواة بين كل البشر أساسا له وعقيدة

لا بد من نهاية لعصر الحروب والأزمات حتى لو كانت حروبا صغيرة داخل دول فقيرة ويمكن القول إن المؤشر الأكثر دافعاً لتشكيل هذا النظام العالمي الجديد هو المؤشر الذي تفرضه التأثيرات الاقتصادية الناجمة عن هذه الحرب إذ إن كل معسكر وحلفاءه يستهدف إنهاك اقتصاد الطرف الآخر فالغرب يتهم روسيا بتحويل الغاز إلى سلاح ويتجلى هذا الشعور لدى الأوروبيين بينما تتهم الصين وروسيا الدول الغربية بأنها غير عادلة في الممارسات التجارية والاقتصادية وسط هذا الصراع الاقتصادي بين المعسكرين نجد أن كل طرف يحاول تحقيق الاكتفاء الذاتي له في الموارد الأساسية وفي مقدمتها الطاقة ومن ثم فإن المعسكرين يستمران في حرب تكسير العظام على كل الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية لحين تتضح النيات المستقبلية .

إذن كل الشواهد والمؤشرات تقول قطعاً إن العالم رهن نظام جديد حتى لو توقفت الحرب بين روسيا وأوكرانيا

ممّا لا شك فيه أن العالم قد تغيّر وخريطة القوى الدولية تبدلت كذلك مخطئ من يعتقد أن الولايات المتحدة هي ذاتها أو أن أوروبا ما زالت كما عرفنا عنها وأن روسيا هي ذاتها بعد تفكك الاتحاد السوفياتي أو أن الصين ما زالت دولة قانعة هدفها حماية نفسها فقط والانغلاق على الداخل.

سنشهد في الفترة القادمة مزيداً من التداعيات ومن التداخلات وصولاً إلى بلورة عالم جديد لا مكان فيه لمفاهيم السياسة القديمة وقواعدها فأياً ما كانت نتيجة هذه الحرب فإنّها ستنعكس على خريطة التحالفات الدولية والأقليميه وسيكون لها أنعكاساتها على منطقتنا العربية وبلادنا اليمن وقادم الايام سيظهر حجم هذة المتغيرات.

سفير بوزارة الخارجية

حول الموقع

سام برس