بقلم/ يرستين النهمي
يرتكز النسق الدولي في هيكلهِ على مجموعة من الدول،ومجموعة أخرى من الفاعلين ذوي القدرات المنتظمة والمؤثرة بِشكلٍ متفاوت،كالمنظمات الحكومية وغير الحكومية،والشركات العابرة للقارات،والأفراد الذين يُقصد بِهم الأثرياء ـ كأسرةِ "آل روتشلد" مثالاً ـ والمليشيات والجماعات الدينية واللوبيات..إلخ..

لتتشكل بذلك خارطة فسيفسائية متباينة القوة والفعالية، فالدول تُمثل الأساس الأول وتستغل نفوذ الفاعلين الآخرين لتحقيق مصالحها؛ بِاعتبار نشأتهم غير مستقلة عنها إلا ما ندر..

تُعد المصلحة والأمن القومي الهاجس الأول في اندفاع الدول؛ لبناء قواتها العسكرية وما يترتب عنها من تطوير القدرات الدبلوماسية والاقتصادية والعلمية في جميع الأصعدة.

فالتاريخ شهد تحولات عدة في سقوط إمبراطوريات ودول مهيمنة وظهور أخرى،عبر الصراعات العسكرية والحروب البيولوجية..

ومع تطور العلوم والمعارف ظهرت آليات حربية أخرى للسيطرة ، كتقنية "الترسيخ الفكري" لتقدم أمة بعينها عن باقي الأمم ، والهيمنة الاقتصادية في مجال التجارة والصناعة والاحتكار للموارد والخبرات ، والأدوات الناعمة في تقديم المساعدات الغذائية والطبية والإنسانية، والتقنية"الرقمية" التي تُعد الأنجع استخدامًا في التجسس وسرقة المعلومات وشن الهجمات "السيبرانية"،الأمر الذي دفعني لإطلاق مصطلح "أسلحة الهيمنة المتشابكة" على هذه الآليات والتقنيات والأدوات،وعلى فعاليتها وتداخلاتها أثناء المعارك "صِدامات الهيمنة".

تنامت "أسلحة الهيمنة المتشابكة" مُنذُ تسعينات القرن المنصرم الذي شهد سقوط "القوة المُعادلة" في النسق الدولي وإنفراد الولايات المتحدة عليه كقوة وحيدة دون مُنافس..

لم يستمر الأمر طويلاً حتى طفت في السطح تكتلات جديدة وقوى جديدة تسعى لكسر الهيمنة الأمريكية،أبرز هؤلاءِ هم "الإتحاد الأوروبي" و"جمهورية الصين الشعبية" وذلك كونهما يمثلانِ القوة الصاعدة أمام الولايات المتحدة.

قبل الخوض في "صدامات الهيمنة" أشير وأُنبه أن "روسيا" لا تُمثل منافسًا ، بل ساعيةً لإبراز قوتها،لا يراها الأمريكان سوى قوة تستذكر ماضيها؛ وبذلك يحتونها من جهةٍ،ويستنزفونها من جهةٍ أخرى؛ حتى يضعفونها حاليًا ومن ثّمَ سيعودون لها لاحقا.

لا تُتخذ القرارات الأمريكية جُزافًا،وإنما تُبنى على دراساتٍ على المدى البعيد.

فالإرهاصات النسقية بدأت مع انتهاء الحرب العالمية الثانية حيث انشأوا "المجلس الاقتصادي الأوروبي" و"المنظمة الأوروبية للفحم والصلب"و"السوق الأوروبية المشتركة"..إلخ،وذلك تجنبًا من حربٍ عالميةٍ ثالثة..لتُتوج تكتلاتهم تلك بإنشاء الاتحاد الأوروبي في عام 1991م؛ حفظًا لدولهم من التبعية والهيمنة الخارجية عليهم..

يظن الأغلبية أن الأوروبيين والأمريكان على وفاقٍ تام؛ نظرًا للتعاون المشترك فيما بينهم، والحقيقة أن العامل الزمني يتمحور من فترةٍ لأخرى،فَهُم ليسو سواء،فمحاور الإختلاف أغلب من محاور الإتفاق ، ومؤكد ذلك شعور الأوروبيين وتنبههم بخطورة السياسات الأمريكية في استغلالهم ، ما دفعهم للتفكير ببناء "جيش أوروبي" مستقل عن "حلف الناتو" وهذا ما أكده الرئيس الفرنسي ماكرون بموت حلف الناتو سريريًا.

تخلصت الصين من قيودها وانشغلت في بناء قدراتها الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية بِشكلٍ متسارع ، شعرت الولايات المتحدة وتنبأت بالظاهرة الصينية في عهد الإدارة الأسبق،حينها اتخذ الرئيس "باراك أوباما" قرارًا بمواجهةِ التوسع الصيني.

يمتلك الإتحاد الأوروبي والصين "أسلحة الهيمنة المتشابكة" ما مكنهُما من مزاحمة الولايات المتحدة،ولابد من التأكيد أن هُنالك منافسون بدرجةٍ أقل ربما تزداد شهواتهم في قادم الأيام؛ ولكنهم يرضخون حتى أنين الهيمنة الأمريكية..

الحروب العصرية نقيضة للحروب التقليدية،وحركيتها تُحقق أهدافها بعد فترة زمنية مؤجلة في غضون عامٍ أو أكثر مع احتمالية تحققها بعد عشرات السنين،إضافة إلى أن آلياتها التي اسميناها "أسلحة الهيمنة المتشابكة" يعطيها رونقها ولمعانها الخاص بها،ويدثرها بالمخاوف الكارثية كنتيجة حتمية لها، دفعني ذلك لتسميتها بمصطلح قد يصفها حقًا وقد يبتعد عنها،وهو "الحروب البطئية" لعلهُ قد يكون الأنسب لتوصيفها.

تحليليًا في إطار الحرب الأوكرانية ـ الروسية، نجد الردود الأمريكية مشبوهة،على غرار الردود تجاه تايوان المتصفة بالحزم والحركية.

ومنه فالإتحاد الأوروبي مُنافسًا ولذا سعت الولايات المُتحدة إلى اضعافهم عن طريق حث "المملكة المتحدة" بالانسحاب منه أولاً،وعندما لم يجدِ ذلك نفعًا،قامت بإفشال صفقة الغواصات الفرنسية ـ الأسترالية ثانيًا، ما أجج الغضب الفرنسي خصوصًا واشعر الأوربيين عمومًا بعدم أهميتهم ، أخص استثنائهم من "حلف أوكوس" الذي ضم الدول الناطقة بالإنجليزية ، وذلك أشبه ما يكون بِخروج أوروبا عن الدائرة الأمريكية،مع تصريحات "ماكرون" وحيثيات إنشاء "جيش أوروبي"..

مشكلتانِ ومنافسانِ في آنٍ واحد،تضربهم الولايات المتحدة بِحجرةٍ ذات رأسين لِكُلِّ واحدٍ مِنهُما رأس خارق.

"البروباغدا أداة جيدة لخداع ذوي الاستراتيجيات الاندفاعية" بِحسب مناهج التحليل. وهذه الطريقة أتقنتها الولايات المتحدة مستغلة المناورات العسكرية الروسية على الحدود الأوكرانية؛ لتقم بتقديم التكهنات من غزو روسيا لأوكرانيا،وذلك ربما لم يكن سيحدث لولا الانذارات الأمريكية وسياساتها الأخطبوطية التي حملقت حتى تحققت ، وهكذا استطاعت تسليط الدب الروسي على أوروبا حتى تُأدبها وتجبرها على العودة إلى أحضان حلفها أي "حلف الناتو"،ولإدراكها ضرورة تمييع السياسة الأوروبية دعمت أوكرانيا إعلاميًا ودفعت الأوروبيين لدعمها بالأسلحة؛ شريطة أن تكون قديمة لا تفيد الأوكران في حسم المعركة،وإنما لتجعلها "حربًا بطيئة" ومخيفة لأوروبا ، وفي الاتجاه الآخر تُكبد روسيا التي لم يكتمل نصابها في تملك "أسلحة الهيمنة المتشابكة" خسائرٍ فادحة كي لا تكون مستقبلاً عائقًا أمامها.

أوقعت روسيا ككابوسٍ فوق أوروبا،وذهبت بإيقاع كابوسٍ آخر على شركائها في شرق آسيا،وهذه المرة بِيدٍ موالية لموسكو وليست هي نفسها، وما أقصدهُ هُنا يكمن في أن الولايات المتحدة عندما قررت سابقًا مواجهة الصين في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ،وجدت نفسها أمام قوة كبيرة وسوست لحلفائها "اليابان" و" كوريا الجنوبية" و"تايوان" بشيءٍ من السحر الإغوائي ـ الإقناعي ، وقد كانت على وشك تحقيق ذلك ، ومن أجل ردعهم حتى لا يذهبوا في الاتجاه المضاد لمصالحها، تركت "كوريا الشمالية" تجري اختباراتها لصواريخها التكتيكية والإستراتيجية دون ردة فعلٍ حاسمة.. فاليوم التالي للقاء زعماء الدول الأربعة الأمريكي والياباني والأسترالي والهندي؛ لمناقشة الكيفية في مواجهة الصين،اجرت كوريا الشمالية تجربة لأسلحتها بإطلاق ثلاثة صواريخ باليستية بينهما واحدٍ عابرٍ للقارات.

صحيح أن واشنطن أعادت حلفاءها متوسلين لها؛ ولكنها بالمقابل أخطأت التقدير، فَبتقديري أنها فعلت ذلك لفترةٍ مؤقتةٍ ليس لا.

اليابان في آسيا.. وألمانيا في أوروبا..

كلا الدولتين تمتلكانِ جيوشٍ متقدمة،مسلحةٍ بأحدث الأسلحة،إضافة إلى امتلاكهنّ للمواد الأساسية لليورانيوم المخصب ، وبالتالي إمكانيتهن في صنع الأسلحة النووية، وعدم صنعهن لهذه الأسلحة ليس وفقًا للمعاهدات المبرمة مع دول "الحلفاء" المنتصرة في الحرب العالمية الثانية،وإنما كذلك وهو الأهم للإرادة الكامنة في السلطتين والشعبين اللذين لا يريدان ذلك..

فألمانيا استشعرت الخطر الروسي وخصصت مائة مليار لتطوير جيشها،ولربما قد تتخلى عن مخاوفها من عودة "النازية" وتصنع أسلحة الردع من ناحية ، ومن ناحية أخرى تُعد هي السبب في عدم بناء "جيش أوروبي" لرفضها لهذه الفكرة التي اقترحتها فرنسا،وقد توافق عليها تحت المخاوف القادمة من روسيا.

كذلك هي اليابان لديها خيارات عدة قد تلجأ إليها إذا ما وجدت نفسها محصورة في زاوية مظلمة.

الاضطرابات والتشابكات والصراعات النسقية والنظامية بين الوحدات الدولية ، يمسها طائف من تحركاتِ الفاعلين الآخرين، بِطريقة تمهد أمامها إحداث خروقات في بُنى المستهدفين حتى يصيروا أهون إزاءها..

وبالمقابل فإن أسلحة العصر وما تمتلكه من مميزات،أدخلت العالم في "حروبٍ بطيئة" ما إن تتوقف في زاوية ما من زوايا البحار واليابسة حتى تنتقل كالسلحفةِ ببطئٍ إلى زاويةٍ أخرى.

حول الموقع

سام برس