بقلم/ محمد الرميحي
واحدة من الخرافات المسيطرة في ثقافتنا العربية فكرة الأحادية أي أن الجميع في المجتمع يتوجب أن يكونوا في قالب واحد، وهي فكرة منافيه للطبيعة الإنسانية الى جانب أنها معطلة للتقدم الاجتماعي والسياسي على كل الصعد.

المشكلات التي تواجه المجتمعات كثيرة ومعقدة، وليست هناك حلول قطعية متماثلة لها، فما ينجح من آليات في مجتمع قد يكون فاشلاً في مجتمع آخر. ومع ذلك فإن هناك شبه ترياق لمواجهة تلك المشكلة وهو قبول التعددية. اما إذا أصر البعض على الأحادية فذلك يفضي الى أزمات منخفضة التكلفة أو عالية التكلفة بل ومدمرة للمجتمع. عدم قبول التعددية في مجتمعاتنا ظاهر للعيان بأشكال بسيطة أو أكثر تعقيدا،ً لنضرب بعض الأمثلة.

في الكويت رفع أحد الأشخاص دعوى لمنع الشركة التي تبث على الشبكة أفلاماً للمشتركين وهي شركة "نتفلكس" بدعوى أنها "تبث ما هو خارج عن قيم المجتمع!" والشركة دولية مفتوحة لحرية الاشتراك أو عدمه وبعيدة من شبكة القضاء الكويتي! طبعاً رفضت الدعوة، بالتأكيد لا يجوز الدخول في ضمير رافع الدعوى هل هي محاولة لصيد الشهرة والانتشار أم هي دافع أخلاقي يريد أن يحمي المجتمع من (شرور) تلك الشركة كما يراها؟، ذلك أمر متروك للتفسيرات المختلفة ولو افترضنا انه تم المنع، تكون النتيجة مصادرة رغبات شرائح واسعة من المجتمع بسبب رأي أحادي، المؤكد أن هناك في مجتمعاتنا من يرى أنه قائم على حفظ القيم كما يراها، وغير قابل أن يرى وجهة النظر الأخرى أو يقيم لها وزناً، إما بسبب ديني أو سياسي أو اجتماعي! لذلك يحدث بعضهم ضجيجاً ليمنع الكتب والأفلام وأي رأى آخر لا يناسبه!!

على نطاق أوسع صرحت المتحدثة باسم الحزب الحاكم في الهند بألفاظ شائنة تجاه الدعوة المحمدية في وسط صراع محتدم سياسي/ثقافي في الهند، وهو أمر ليس بغريب ولا بالجديد، فثار البعض مطالباً بمقاطعة الهند وطرد الهنود جميعاً (في الخليج 9 ملايين منهم) وأيضاً بمقاطعة البضائع الهندية. وعلى الرغم من احتجاج دول إسلامية وتراجع رسمي من الحزب الحاكم، ظل البعض يتاجر ويضخم الأمر في مفارقة واضحة لأحد أعمدة الحكمة في الدعوة الإسلامية (لا تزر وازرة وزر أخرى). فخطيئة البعض لا يجوز تعميمها على الجميع، وأي عاقل فطن يعرف يقيناً أن الدعوة المحمدية التي يتبعها أكثر من مليار من البشر، لا تضرها ترهات البعض، فقد قيل وسوف يقال مثل تلك الأقوال، كما أن الهند بلاد فيها الكثير من العنف، كما نعرف أن غاندي محرر الهند مات مقتولاً على يد متطرف، وكذلك السيدة انديرا غاندي وابنها راجيف وعشرات من كبار السياسيين.

لقد ثارت مثل تلك الأفكار العاطفية بالانتقام من دول حدثت فيها اراجيف ضد الإسلام أكثر من مرة ثم هدأت الزوبعة، كما حدث لسليمان رشدي في الثمانينات من القرن الماضي، وكل ما نتج أنه تم ترويج ضخم لرواية من الدرجة الثانية، وكذلك عدد من التصريحات أو الكتابات في دول غربية، تثور الثائرة وتختفي، في حين أن القول "ذلك رأيهم ونحن نختلف معه" حيث الواقع أن الثورة والمقاطعة تغذيان فكرة الأحادية الموقتة، ولا نتيجة ملموسة لها بعد حين بل تصرف الجمهور عن القضايا الأهم الملامسة لحياتهم.

في تونس تدور معركة حول اقتراح نص في الدستور بجعل الدولة مدنية، وهنا أيضاً يتم تجاهل مشكلات تونس الحادة الاقتصادية والاجتماعية لينشب خلاف لا معنى له، فإن نصّ الدستور أو لم ينص على أن الدولة التونسية إسلامية، فإن المجتمع التونسي لن يخرج عن الإسلام في الغد، فتلك عقيدة راسخة لا يتصور عاقل أنها ستختفي بمجرد عدم وجود نصّ عليها أو وجود ذلك النص.

أما في العراق فيتحول البحث عن (الأحادية القسرية) الى مأساة حقيقية، فالشعب العراقي معظمه يرزح تحت الفقر وتفتك الأمراض بشرائح واسعة منه، ويتعطل أكثر من ثلث القوة العاملة بلا عمل وتتبخر أمواله وتتعطل مؤسساته، كل ذلك بحثاً عن أحادية غير ممكنة. يتم اختطاف مستقبل الدولة العراقية ويتعرض الشعب العراقي لأكثر أنواع القهر (مال وفير وفقر مدقع) في معادلة شيطانية ليس لها سابق، كل ذلك بسبب رفض قاطع من البعض للتعددية.

يراوح السودان في مكانه متجهاً أكثر وأكثر الى الفقر والتشرذم والانشطار، والجميع يبحث عن أحادية سودانية مستحيلة، وسيبقى البحث عن ذلك الأحادي في السودان كما يبحث العميان عن كنز مدفون، من جديد رفض قاطع للاعتراف بواقع التعددية.

والحديث عن ليبيا لا يختلف إلا في الدرجة عن ما ذكر في العراق أو السودان، تجتمع اللجان وتتفرق وتذهب الى أقاصي العالم وأدناه، والبلاد الليبية تغطس أكثر وأكثر في أزماتها الاقتصادية والاجتماعية وتفرخ ميليشيات مسلحة، بل تنتج حكومة برأسين!! وليس لبنان ببعيد من كل تلك التجارب السلبية في فضائنا العربي المنكوب.

بيت القصيد: ما نراه حولنا ما هو إلا مظاهر المرض أما أسباب المرض فهي البعد من قبول حقيقة اجتماعية بسيطة وهي قبول التعددية في المجتمع، عدم قبول التعددية يعني البحث القسري عن أحادية مستحيلة، الخروج من هذا المرض الحضاري (الأحادية) كمثل "كلنا ناصر" أو "كلنا بعث" أو "الأسد الى الأبد" أو "كلنا حزب الله" أو "كلنا حوثي"، ذلك يقود الى شمولية تقود تلقائياً الى القمع ورفض الحوار وإهانة عقل المواطن واختزاله كترس في آلة يتلقى الأوامر.

* نقلا عن "النهار"

حول الموقع

سام برس