بقلم/ محمد الرميحي
الصورة الأكثر وضوحاً هي المعركة القانونية الدائرة في بريطانيا، هل يهجر القادمون غير الشرعيين إلى روندا التي دفعت لها ملايين الجنيهات من أجل استقبالهم، أم أن ذلك عنصرية وتهجير قسري وغير إنساني؟ المعركة لم يكسبها حتى الآن طرف ، لأنها طويلة ومعقدة، ولكنها ربما تؤدي في النهاية إلى أن يفقد رئيس الوزراء بوريس جونسون مقعد القيادة في حزبه والحكومة، الضجة لن تذهب بل ستبقى تدور في الفضاء السياسي البريطاني والأوروبي وأيضاً في بلاد الهجرة. واللافت أن عدداً من وزراء حكومة المحافظين التي سنّت تلك السابقة هم من أصول مهاجرة، بمن فيهم رئيس الوزراء نفسه ووزيرة الداخلية المناط بها تطبيق التهجير القسري وعدد آخر من القيادات.

الخطوة هي رأس جيل الثلج في الأزمة التي يواجهها الفكر الليبرالي الغربي والممارسة السياسية، فقد تنامت كراهية الأجانب وتبنّت الفكرة أحزاب وازنة في الغرب، سواء في الولايات المتحدة أم في الغرب الصناعي، كما أنها أزمة أخلاقية، إذ إن تلك القوى الغربية تتحمل جزءاً أو كل السلبيات التي تركتها في الدول القادمة منها تلك الهجرة.

فكثير من تلك الدول التي تشهد صراعات اليوم كانت حتى فترة متأخرة مستعمرات لتلك البلدان الغربية، مباشرةً أو غير مباشرة، ولم تقم تلك الدول المستعمرة وقتها ببناء أنظمة حكومية رشيدة من أجل أن تنتج تلك الأنظمة وضعاً اقتصادياً شبه مريح لشعوبها.

الاستعمار يتحمل الكثير من اللوم في ذلك، ولكن أيضاً الجشع يتحمل جزءاً غير يسير منه، فلما احتاجت تلك الدول جنوداً للحرب في صفوفها جنّدت أبناء المستعمرات، فقدمت الهند ملايين الهنود للإمبراطورية البريطانية التي ترسخت لقرون هناك، كما جندت فرنسا لفيلق الأجنبي من أبناء شمال أفريقيا وأفريقيا السوداء، كما جلبت تلك الدول الغربية عشرات الآلاف من العمال بعد الحرب الثانية للعمل على بنائها من جديد: أتراك وعرب وأفارقة، للعمل في مصانعها وبنيتها التحتية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومن الثابت أن شبكة القطارات تحت الأرض في مدينة لندن قد بُنيت على أكتاف العمال الأجانب.

الآن يُطرد هؤلاء (الزائدون عن الحاجة) من الجنة بحجج مختلفة وطرق غير إنسانية، فقط لأنهم هربوا من أنظمة ساهمت تلك الإمبراطوريات، إما في إنشائها أو حمايتها أو صرف النظر عمّا تقوم به من قبائح في الفتك بمواطنيها، الأكثر غرابة أن رأس الرمح في الإصرار على الطرد هم المهاجرون الأولون أو أبناؤهم في مفارقة إنسانية تثير العجب.

ماذا يفعل السوري أمام هذه المذابح التي يشاهدها أمام عينيه غير الفرار بجلده، وماذا يفعل اللبناني عندما تحاصره الفاقة وانسداد الأمل والجوع إلا ركوب البحر مغامراً للوصول إلى (الجنة الموعودة)، وكذلك العراقي الذي يُمتهن في وطنه ويُحرم حتى من الحد الأدنى من الخدمات أو فرص العمل، والأفريقي وغيرهم من شعوب العالم التي ابتُليت باستعمار وأيضاً (استحمار) من قيادات جشعة همها الأول والأخير الحفاظ على السلطة وتكديس الثروة.

يحمل الجواز البريطاني من مواطنين خارج بريطانيا الملايين، بسبب الاستعمار القديم، مثلاً في هونغ كونغ هناك سبعة ملايين مواطن، منهم مليونان يحملون الجواز البريطاني، ماذا لو قرر هؤلاء العودة إلى بريطانيا، هل تنطبق عليهم تلك القاعدة في التحول إلى روندا! وماذا عن اللاجئين الجدد من أوكرانيا القادمين من دون تأشيرة أو سابق إنذار.

الملف كاملاً بكلياته وتفاصيله يطرح التساؤل حول مسؤولية الغرب الأخلاقية وحتى القانونية أمام تلك الظاهرة في عالم يتقارب أكثر بسبب الثورتين التقنية والاتصالية. فترك الصراعات الأهلية وغضّ الطرف عن الدكتاتوريات، وترك الشعوب في خضم أنظمة قامعة جزئياً هي مسؤولية الغرب، سواء على صعيد المؤسسات الدولية أو التدخل المباشر. صُدم العالم وهو يشاهد أجساداً بشرية تتساقط من الطائرات المنطلقة على عجل من مطار حميد كرزاي في أفغانستان في الصيف الماضي، وهو اليوم يقارن بين ما صرفه الغرب لنصرة أوكرانيا في أشهر قلائل، وما صُرف على أفغانستان في سنوات طويلة. إنه يكاد يتساوى، كانت الحجة الغربية في ترك الأفغان يذهبون إلى القرن السادس عشر أن تكلفة البقاء كبيرة، وهذه التكلفة تُدفع من جديد ولا أحد يسمع شكوى.

حجة الحكومة البريطانية في شحن البشر إلى روندا أنها بذلك تردع (المتاجرين بالبشر) من القيام بتهريبهم، وهي حجة واهية، لأن الشواهد تؤكد أنه في الوقت الذي تستعد فيها السلطات البريطانية لفعل ذلك يصل إلى شواطئها مهاجرون جدد!

تقوم الأنظمة الغربية تحت ذرائع مختلفة بالتدخل في شؤون الدول الأخرى، تصدّر الرجال والأفكار الهدامة للمجتمعات أو تساعد عليها، كمثل ما فعلت فرنسا في إرسال الخميني بطائرتها الضخمة إلى مطار طهران ليبدأ من هناك إشعال فتيل طائفي قبيح، لا نفع فيه لا للشعوب الإيرانية ولا للشعوب الأخرى، أو كمثل القيادة من الخلف الذي تحدث عنه باراك أوباما في تحطيم القائم في مصر أو إطاحة النظام القائم في ليبيا، دون أي خطط واضحة لما يمكن أن يأتي في (اليوم التالي)، ومن ثم التبرؤ من نتائج تلك الأفعال، ومنها الهجرة بجانب الفقر والمرض والإفلاس. لقد رقص عدد من العواصم الغربية حسب قناعتها في مكان فسيح في الشرق الأوسط، ولكنها لم تنتبه إلى أنها ترقص في مأتم الأرامل!

* نقلا عن " النهار"

حول الموقع

سام برس