بقلم/ عبدالله الصعفاني
تكشف لنا أمطار هذا الصيف كثيرًا من براكين الشوق التي كانت كامنة في الشعور اليمني وفي اللا شعور تحت إحساس الأرض وناسها بقسوة الجفاف مع تأخر المطر عن موعده.

وشخصيًّا أُدين للمطر بالسعادة الطارئة التي داهمتني هذه الأيام وأنا أرتدي الجاكت البلستيكي الخفيف، ثم أنطلق إلى الشوارع وكأنني أستحضر عنوان رواية الحب تحت المطر.

* ورغم ما يترتب على المطر الغزير المتواصل من احتباس الأنفاق والميادين بالمياه وقلة ذوق من لا يراعون المارة فيقذفون بالماء المتسخ إلى كل اتجاه، ولا يستثنون من فتحوا نوافذ سياراتهم أبقى عند ذات الشكر للوهاب الكريم على نعمة مطر، أشعر معه بأنني ما زلت على قيد الحياة، وقادر على الهرولة، وأداء ما تيسّر من تمارين سويدية تجنب فقدان القدرة على الحركة.

* عند نزول كل غيث أستحضر حقيقة أنه لا تتعلق إلا بكرم الله الواهب لنعمة الصحة، حتى إنني الآن أشعر بالامتنان للمواطن السوداني الحاذق الذي نبهنا جميعًا بألّا نتعلق بكائن من كان، فقال بلهجته السودانية المحببة (لا تتعلق بشخص.. أنت ما قِرد.. والزول ما شجرة).

* ومن موقع الداعي لكم بطول العمر سأواصل من الكلام عن المطر، ويستطيع أيّ متشائم تسمية ذلك بالرومانتيكية الفارغة، أو حتى قلة عقل بحسابات أولويات الحياة اليمنية المعقدة..!

لكنني تأثرت، وما زلت بالأشجار الضاحكة بالمطر، متعلقًا بالأمطار بلسان وقلب المفارق، يدفعني حنين الشوق المتجدد إلى مطر لم يأتِ هذه المرة إلا متأخرًا بعد أن أخرج لخبراء الأرصاد لسان التهكم من كونهم يتوقعون ارتفاع درجة الحرارة فنتسلح بالبطانيات ويتوقعون المطر، فتتحول المظلات في أيدينا إلى واقٍ من الشمس..!
وهي إشارة تدعو لتذكير جماعتنا أهل الرصد ونشرات الأحوال الجوية ومؤكدي أن (الجو غائم إلى غائم جزئيًّا) يحتاجون لتنمية معارفهم وأجهزتهم وحساباتهم بعد أن اقتحم العالم – من زمان – خط استمطار السُّحب بتوجيهها بأمر الله الذي نسينا دعوته لنا للقراءة والتفكر والتعلم.. وقال عز من قائل (ويخلق ما لا تعلمون).

* ويا سلام على المطر عندما يشرح قلوب الناس، فتزغرد له القلوب، وتبتسم له الجبال والهضاب.. المدرجات والأودية.. يا سلام على السحب والرعود كلما خرجت لنا بتصريح تنفي فيه قول الصوت الملائكي فيروز (ما أنتِ والوعد الذي تعدينني.. إلا كبرق سحابة لم تمطرِ..)

* تهطل الأمطار فتنشرح الصدور، وتغتسل القلوب، وينمو الزرع، وتتسع مساحة الضوء، تدعونا لأنْ نستدير لبعضنا، لا لنتحارب وإنما لنرمي قطع السلاح، متجاوزين عادتنا مع زراعة أشجار قات تقتل بسمومها لأنها بلا ثمار، ولا نستفيد حتى من ظلها، فنحن على عجلة من أمرنا، نمارس هواية المزاحمة في القلوب… مربوطين إلى مجالس ومخادر القات والدخان خصمًا مما هو صحي من العادات.

ولو كانت لي من أمنية الآن، فهي أن نتعود على الاستدارة من أوضاعنا الخاطئة إلى همس الغيث الذي يغسل القلوب والأنفس، فنزود بعضنا بأفكار سليمة تنتمي إلى العصر، أفكار تحترم المنطق والعقل والوجدان السليم.

* و(إذن) لقد فرح الجميع في الريف والحضر بالأمطار، ولكن.. هل هذا كل شيء..؟

ثمة نقاط سلبية كثيرة يكشفها المطر سنويًّا، لكننا لا نعيرها أيّ انتباه، وإنْ حدث فمن موقف ردود الأفعال البليدة.. لا فرق بين المدن والأرياف إلا في اختلاف الحاجة.. في الريف مثلاً، تظهر الفروق في ملكة تفكير السلطات المحلية ووجاهات القرى.. فهناك من اجتهدوا في أن يكون هناك الكثير من الحواجز والسدود التي تسمح بالاستفادة من أمطار الصيف لمواجهة شحة المياه وتأخر مواسم المطر.

* وبالفعل.. لقد غادر سكان قرى ريفية إلى المدن في هجرة داخلية بعد أن جفت العيون ووصل سعر وايت الماء إلى خمسين ألف ريال، وهو سعر لا يتعاطى معه إلا نفر قليل، فما الذي سيبقى للريف من المعنى إن تأخر المطر ولم يكن في أي قرية من السدود الصغيرة ما يلبي احتياجات السكان..؟

* أما الوجه السلبي الذي تكشف عنه الأمطار في المدن كما هو الحال في العاصمة صنعاء، فهو غياب أمانة العاصمة عن وظيفتها ودورها، حيث نرى آثار الحماقات في احتباس مياه الأنفاق، والمصارف كما هو حال شمال السائلة، تقاطع شارع النصر، حيث يتعثر مشروع النفق والجسر فوق ظهر سلحفاة مريضة، كما يتم منع المياه من مواصلة حركتها في عملية تعطيف لشاعرية مَن تساءل (هل يملك النهر تغييرًا لمجراه)، لكنها تدخلات وترهلات وأطماع لم تجد من يوقفها.

* أما جديد العبث، فهو دفع سائلة صنعاء لأنْ تتخلى عن دورها كمصب يجري منه تصريف أمطار المدينة إلى مناطق زراعية شمال العاصمة، فإذا هي اليوم تدفع بمياهها إلى الأعلى باتجاه ميدان التحرير في عملية تبادل عجيبة للأدوار، حيث يمكن للعبث أن يدفع الماء إلى الأعلى.. فالوداع للعقول، والوداع يا ميازين الماء..!

* إن الفرحة بمياه الأمطار هي فرحة بتغذية آبار وعيون مياه الشرب، وسقيا للأشجار، وحياة للناس والأنعام، غير أن الأمطار وإن انتظمت لن تغنينا عن استسقاء مختلف طلبًا لمياه أخرى ليست من الأرض ولا من السماء.

إنها مياه الوجوه المطلوبة لأداء فرقاء السياسة لمهامهم من أجل استعادة اليمن للوصف القرآني: (بلدة طيبة ورب غفور).

موقع صحيفة اليمني الأميركي

حول الموقع

سام برس