سام برس
تلاطم الأسئلة: عندما يتناثر الوجود بين الماء والماء
قراءة فلسفية في قصيدة : بماذا تفكر ؟! - للشاعرة : رولا أبـو صعـب – سوريا .
بقلم : كريم عبدالله – العراق .
القصيدة :
بماذا تفكر ؟!

عمقٌ من السهل أن يُبلَغ في تحديد العلاقة

بين فكرتين :

واحدة تموت ، وأخرى تنهض في جوهر الأشياء

إنما دون افتعال إثمٍ لركل الأصوات العالقة

في ذروة شجرة يابسة

‏ ‏ففي الداخل أحشاء باردة تتوق إلى قرع كأسٍ

يلفها ذراعٌ حنون ، يمشي باتجاه القلب

‏لتدخل الأُلفة هذه الوجوه

‏ويتأجج الجمر في موسيقا يهبُّ إليها الخاطر

‏تغدو أغنية عالَمٍ بكر منفتح جديد

‏هكذا دائماً نهرب إلى الغناء

‏كرجيع من كسور الضوء

‏حين يغشى الدخان فضاء الغرفة المظلمة





ماذا بوسعنا أن نفعل ؟!

وعلى الباب قَرعٌ يُخرجنا من سعة مداركنا

ويُلقي بنا في احتفالية الصراخ المخنوق

ترقص على وقع ‏خطاه شقوق الأحلام

و ‏ينبثق من منابعها تآلف واضح مع كل هذا السوء



والحق أن النفس اضطربت حين جاءها الصوت

مرةً أخرى

علمت أنها دخلت في الليل

‏أتكون العتمة توءم الحزن ؟!

‏وإلا فلماذا كُلَّما خرج الليل من تأمُّله ليُكمل مسيرته

‏باتجاه الاعماق

‏وجد بوابة الجرح تنفتح وتغيب في الدم !

‏لماذا يبتسم لنفسه ابتسام الإشفاق

‏والروح أقفرت من الفرح كما فرغت الخابية من النبيذ؟!

‏لماذا ينسكب الشِقاق في الأقداح حينما يُرجَع الخطأ

‏الى مكامنه ، وتضيع النشوة في الجسد المتثاقل برودةً



تلاطمت الأسئلة كما الموج

وتناثرت الأجوبة بين الماء والماء

لا شيء هام على الإطلاق

فالوجود حلم ...

بل هو وهمٌ تام .

القراءة :

القصيدة التي بين أيدينا هي دعوة للتأمل الفلسفي في مسألة الوجود واللاوجود، والتساؤلات الوجودية التي تلاحق الإنسان في أوقات التمرد الداخلي على العالم المحيط به. قصيدة "بماذا تفكر؟!" للشاعرة رولا أبو صعب تُعبر عن حالة نفسية وعقلية معقدة، تتساءل الذات وتغوص في عمق الأسئلة الوجودية التي تطرحها الحياة والموت، والألم والفرح، والحقيقة والوهم. في هذه القراءة، سنحاول تحليل النص من منظور فلسفي يستعرض أبعاده الفكرية والرمزية.

1. الموت والبعث: رحلة الوجود

القصيدة تبدأ بتساؤل جوهري يلمس ثنايا الوجود ذاته: "عمقٌ من السهل أن يُبلَغ في تحديد العلاقة بين فكرتين: واحدة تموت، وأخرى تنهض في جوهر الأشياء". هنا، الشاعرة تتعامل مع فكرة الموت كجزء من دورة طبيعية، حيث الموت ليس نهايته، بل هو مرحلة عبور إلى شيء آخر. هذه الثنائية بين الموت والبعث تشبه الفكرة الفلسفية العميقة في هيدجر عن الوجود والعدم. إذ يرى هيدجر أن الإنسان يتصارع مع فكرة الموت بوصفه رفيقًا دائمًا له في رحلة وجوده، ولا يمكن للوجود أن يكون كاملاً إلا إذا كان واعيًا لهذا الموت المحتوم.



الموت هنا ليس مجرد نهاية، بل بداية لوجود جديد، كما هو الحال في "فكرة تنهض" أو في تواصل الفكر مع الحياة المتجددة. ربما هذا هو المعنى الذي تقترحه الشاعرة: أن الموت يرافق الحياة في توازن مستمر، ولا يمكن أن يكون أحدهما بمعزل عن الآخر.

2. القلق الوجودي والألم الداخلي

في السياق نفسه، الشاعرة تعرض صورة النفس البشرية من خلال "أحشاء باردة تتوق إلى قرع كأسٍ يلفها ذراعٌ حنون"، وهو تصوير رمزي يربط الألم الداخلي بالحاجة للراحة والمواساة. الكأس هنا لا تمثل مجرد أداة للشرب، بل تمثل الرغبة في الهروب من الألم الداخلي إلى حالة من الطمأنينة، يرافقها "ذراع حنون"، ما يلمح إلى البحث عن الألفة والراحة في عالم داخلي يعاني من الجفاء والبرودة.

هذا القلق الداخلي يعكس فكرة سارتر حول الوجود في حالة "الاغتراب" أو "القلق الوجودي"، حيث يشعر الإنسان بعدم الراحة في وجوده، وهو في سعي دائم للبحث عن معنى أو تواصل مع العالم الخارجي. الشاعرة تظهر هذا الصراع الداخلي بين الرغبة في الانفتاح على الحياة وبين شعور متزايد بالعزلة أو الجفاء الداخلي.

3. الهروب إلى الغناء: محاولات لتجاوز الواقع

"هكذا دائماً نهرب إلى الغناء" تقول الشاعرة، وهنا يمكننا تفسير الهروب إلى الغناء كرمزية للبحث عن شكل من أشكال السعادة الهروب، ذلك الذي يخفف من عبء الواقع ويمكّن الشخص من التسلل إلى عالم آخر بعيد عن هموم الحياة اليومية. الغناء هنا يصبح ملاذًا، واحتفالًا مؤقتًا يمكن من خلاله تجنب المواجهة مع الصراع الداخلي، وهو يشبه محاولات الهروب التي يتحدث عنها الفلاسفة الوجوديون مثل كامي ونيتشه، الذين يرون أن الإنسان يعاني من "عبثية" الحياة، وبالتالي يسعى إلى الخلاص بأي وسيلة، حتى لو كانت وسيلة الهروب.



4. العتمة والحزن: صراع الليل والروح

القصيدة تأخذ منحى أكثر عمقًا حينما تبدأ بالتساؤل عن العلاقة بين "العتمة" و"الحزن". الشاعرة تطرح تساؤلات وجودية مؤلمة: "أتكون العتمة توأم الحزن؟". وهنا نجد توازيًا مع فلسفة نيتشه الذي تحدث عن الصراع بين النور والظلام في الوجود، وكيف أن الإنسان قد يضطر أحيانًا إلى الدخول في الظلام ليجد ذاته. العتمة تصبح في هذا السياق أكثر من مجرد ظلام مادي؛ هي حالة من اللايقين، وفقدان الأمل، والتورط في بحر من الأسئلة التي لا تنتهي.

كما أن "بوابة الجرح تنفتح وتغيب في الدم"، تصوّر الشاعرة الألم المتراكم الذي لا يمكن احتواؤه، والذي يخرج في صورة جروحٍ داخلية تضغط على الروح، حتى تغرق في الظلام. هذا التفسير يحمل تلميحًا إلى فلسفة هيدجر الذي يعتبر أن الوجود الإنساني يتأثر بالشعور بالانفتاح على الموت وعلى الألم، وهو أمر لا مفر منه في تجربة الإنسان.

5. الأسئلة واللامعنى: الوجود كحلم أو وهم

القصيدة تنتهي بتساؤل فلسفي معقد: "فالوجود حلم ... بل هو وهمٌ تام". هذه النهاية تشير إلى فكرة الأفلاطونية عن الوجود البشري، حيث يرى البعض أن العالم المحسوس ليس سوى انعكاس لعالم مثالي غير مرئي. كما يمكن ربط هذه الفكرة بفلسفة ديكارت في الشك الوجودي، حيث يتساءل عن "ما هو الواقع" وما هو "الخيال"، ويخلص إلى أن "الوجود" قد يكون مجرد وهم أو خيال تافه.

هذه النهاية تمثل صراعًا داخليًا بين الوعي والوجود، حيث يشعر الشخص أن الحياة عبارة عن حلم غير حقيقي أو وهم تام، مما يفتح الباب أمام الأسئلة العميقة حول معنى الحياة والموت والوجود نفسه. في هذا الصدد، نجد أيضًا أن هذه الأسئلة تتناثر "بين الماء والماء"، في إشارة إلى تداخل المعنى والفهم، وتشابك الوجود الذي يبدو غارقًا في بحر من الأسئلة التي لا تنتهي.


الخلاصة:

قصيدة "بماذا تفكر؟!" هي بمثابة تأمل فلسفي في معاناة الإنسان الوجودية، وتطرح أسئلة وجودية عميقة حول الموت، الحياة، الألم، والهروب من الواقع. الشاعرة تستخدم الرمزية والمجاز لتصوير حالة من القلق الوجودي والنفسي، حيث تتداخل العتمة مع الحزن، وتندمج الأسئلة مع الإجابات الضبابية في رحلة متواصلة نحو البحث عن معنى للوجود. هذه القصيدة تسلط الضوء على الصراع بين الأمل واليأس، وبين الحقيقة والوهم، وتعكس بشكل جلي الفكر الفلسفي الوجودي الذي يعالج تجربة الإنسان في عالم متغير وغير ثابت.

حول الموقع

سام برس