وسام سعادة
بخلاف الدول الأميريّة المطلّة على الخليج، تشترك السعوديّة مع اليمن في الثقل السكاني المتنامي لمجتمعيهما، في وقت يتواصل فيه تهميش هذا المشترك الديموغرافي السعودي اليمني، عند المقاربة الجيوسياسية، فضلاً عن تلك السياسية البحت والأمنية البحت، المتّصلة بمآل الأوضاع في شبه الجزيرة العربية، وخاصة في اللحظة الراهنة، التي تزامن فيها اكتمال سيطرة جماعة «أنصار الله» الحوثية المهدوية المدعومة من ايران على صنعاء، مع وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز وتولي أخيه سلمان المُٰلْك، وتكريس تسمية وليّ عهد ثانٍ، ليرتسم مع اسم الأمير محمد بن نايف أفق انتقال العرش الى جيل أحفاد الملك عبد العزيز الذي تعاقب ستة من أبنائه على توارث المُلك، منذ وفاته عام 1935.

عدد السكان في السعودية هو أعلى منه في اليمن، وعدد المواطنين في اليمن هو أعلى منه في السعودية. يسكن السعودية حوالي 28 مليون نسمة، منهم 20 مليون سعودي، وثمانية ملايين من المهاجرين اليها للعمل، ومنهم مليون يمنيّ. ويقدّر عدد اليمنيين اليوم بخمسة وعشرين مليون نسمة، كما يعيش على أرضهم 700 ألف لاجئ صومالي.

ولئن تميّزت اليمن تاريخياً بعراقة المدن فيها، بخلاف بقية أنحاء شبه الجزيرة، الا أنّ ثلث اليمنيين فقط يعيش اليوم في الحضر، في حين تعيش أكثريتهم في الأرياف. أما السعودية، التي كانت أكثرية سكانها الذين كانوا يقدّرون بثلاثة ملايين في خمسينيات القرن الماضي يعيشون حياة بدوية، فان أكثر من 83 بالمئة من أبنائها يعيش اليوم في الحَضَر. وفقاً لتقدير النمو الديموغرافي الحالي، سيجاوز عدد سكان كل من البلدين عتبة الأربعين مليونا بحلول منتصف القرن.
اليمن من أفقر بلدان المعمورة ولم يقلب الريع النفطي الأوضاع فيها رأساً على عقب رغم ان عائدات النفط الخام تشكّل معظم واردات الموازنة العامة ومعظم صادرات البلاد.

والسعودية تتركز فيها ثروات مالية طائلة، لكن نحو ربع سكانها يعيشون تحت عتبة الفقر أيضاً. التركّز المدينيّ للسعوديين يترافق مع ازدهار طبقة وسطى سعوديّة لعلّها في نسبتها الى مجموع السكان الأكبر على صعيد العالم العربي. وهذا معطى تفارقيّ أساسيّ بين السعودية واليمن. والثورة «الربيعية» اليمنية نشأت من حيوية أهليّة لها مسحة الطبقة الوسطى في مجتمع ضعيفة الطبقة الوسطى فيه، بحيث أنّها لم تستطع حماية ثورتها من التقاطع بين أركان النظام القديم من جهة، وثورة الحوثيين من جهة ثانية. أما في السعودية، فتشكّل الطبقة الوسطى الى حد كبير، القاعدة الاجتماعية للنظام، حيث يؤطّرها التوزيع المركزي التراتبي للريع النفطي والريوع الملحقة به أو المتفرّعة عنه، ورغم ان عقوداً مرّت على ما كتبه المؤرخ السوفياتي – وقتذاك – الكسي فاسيلييف في النص الأول لكتابه «تاريخ العربية السعودية»، الا أنّ خلاصته ما زالت تحتفظ بشيء من الراهنية. يقول فاسيلييف: «ان عوائد النفط المتنامية باطراد والتي بلغت ارقاماً خيالية، مكنت النظام السعودي حتى الآن من «دفع جزية» لاسكات المطالبين باجراء تغييرات جذرية». ويتابع: «اغتنت من النهوض الاقتصادي شرائح واسعة، والى حين، ضمن النظام لنفسه قاعدة اجتماعية واسعة ومتينة بدرجة كافية، تتكون من الفئات «الوسطى» في المدن والبيروقراطية وقبائل البدو «الكريمة المحتد» الحاصلة على مخصصات ملكية، وكذلك من اوساط التجار ذوي النزعة المحافظة والبرجوازية الصناعية الناشئة». كتب فاسيلييف ذلك في بداية الثمانينيات، وكانت نسبة التمدين، أو الانتقال الى الحضر، لا تزال أقل بنسبة معتبرة مما هي عليه الحال الآن. في الوقت نفسه، أنهى الطبعة السوڤياتية من كتابه (لاحقاً سوف يعيد تدوير كل الكتاب ايديولوجياً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي) بالقول: «لقد اختل التوازن الاجتماعي القديم في السعودية، ولكن لم يقم توازن جديد رغم كل ما يبتدع من مرتكزات واجراءات جزئية».

هل يمكن المصادقة، مجدداً، على خلاصة ڤاسيلييف هذه اليوم؟ ليس من باب الفصل بين التشكيلة الاجتماعية في كل من البلدين موضع اهتمامنا هنا. منذ شرع السعوديون في بناء ثم تعليق ثم استكمال الجدار الحدودي مع اليمن، وهم يدركون جيداً ان مسألة التوازن أو السلم الاجتماعي متصلة بالجار الجنوبي الغربي. ليس فقط لأنه جدار كان القصد منه الحد من تهريب المخدرات والأسلحة والجماعات المسلّحة والمهاجرين غير الشرعيين اليمنيين منهم والأفارقة، بل لأنّ السياسة السعودية التقليدية في منح مخصصات لمشايخ القبائل المفتاحية في اليمن، كامتداد لسياسة توزيع الريع السعودية الداخلية، لم تعد كافية، بل لم تعد مفيدة، خصوصاً في ظلّ التحدّي التمدّدي للجماعة الحوثية، كما ان الجدار لم يعد «عملياً»، لأن الجدران غدت كثيرة…

فهذه الجماعة الحوثية باتت تسيطر اليوم على مناطق الهضبة اليمنية، أي المناطق ذات الأكثرية المذهبية الزيدية، لكنها لم تغنم بعد مناطق في القاطع الثاني من اليمن، حيث الغالبية السنية الشافعية. وفي الوقت نفسه، الذي تعتبر فيه الرياض تمادي الحوثيين خطراً على البلدين، لكنّها لا تريد الاخوان المسلمين (الاصلاح) كبديل، ولا الحراك الجنوبي أو الاشتراكيين، ولا تنظيم «القاعدة»، أي أنّها لا تريد الحوثيين، لكنها متحفظة تجاه سواهم.

يوم اجتاحت قوات علي عبد الله صالح اليمن الجنوبي في اثر اعلان انفصاله عن دولة الوحدة «المسلوقة» عام 1994، ندّد ماركسيّو الجنوب بالاجتياح «الشيعي»، هذا مع أن تركيبة نظام صالح كانت مختلطة مذهبياً الى حد كبير، ومع كون الزيديين لا يشكّلون الأكثرية في اليمن الشمالي ككل، انما في الهضبة اليمنية اي شمال اليمن الشمالي من صعدة حتى صنعاء. يومها تلفتت أنظار الجنوبيين، الماركسيين الى الرياض.
اليوم، لم يعد ثمة «يمن شمالي» يجتاح توحيدياً «يمناً جنوبياً» انفصالياً. لم يجتح الحوثيّون الا مناطق على مذهبهم الزيدي، وان لم تكن على طريقتهم «المنضّبة خمينياً». لكنهم يبدون عازمين على التمدّد، ويراهنون في ذلك على ازدهار «تنظيم القاعدة» في الجنوب، كأنما الخيار بين «الحوثيين» أو «القاعدة» .. «اذاً كليهما». بالتوازي، فان هذه الحسابات المذهبية والدموية، لا تنفصل عن معركة الأوزان الديموغرافية، وهذه لها مسرح يمنيّ خاص، لكن لها، مسرح يمنيّ سعوديّ مشترك أيضاً. وفي مكان ما من الصورة جاز الحديث عن صراع طبقي على مستوى شبه الجزيرة ككل، انطلاقاً من أرض اليمن.

٭ كاتب لبناني
..نقلا عن القدس العربي


حول الموقع

سام برس