بقلم/ رفعت سيد أحمد
مما لا شك فيه أن جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي مُدانة بكل المعاني واللغات، هكذا قال الرأي العام العربي والدولي كلمته. ولكن ما حيّرني في تلك القضية وظللت لعدّة أسابيع أتابعه وأحلّله هو ذلك التعامُل التركي مع القضية والذي بدا للعالم وكأن حكومة إردوغان هي المثال الأبرز لحرية الرأي والمُدافِع الحق عن الصحافة وحقوق الصحفيين في الوقت الذي يُنبئنا فيه التاريخ بشواهِد وحقائق مُغايرة تماماً لما أرادوا إشاعته في العالم من خلال التوظيف المُحكَم لقضية خاشقجي، واستخدامها في عمليةٍ واسعةٍ لغسل السِمعة السيّئة لدولة صاحبة باع وتاريخي (هي هنا دولة أردوغان لحقوق الصحفيين والمواطنين في تركيا).

طبعاً يُضاف إلى ذلك الاستثمار الماكِر للقضية في الابتزاز السياسي (تماماً مثل واشنطن) ما يهّمنا هنا الجانب المُتّصل بالحرية الإعلامية وكيف أرادت حكومة إردوغان استثمار القضية لصالح تجميل صورتها القبيحة والتي دفعت قبل عدّة أشهر منظّمة العفو الدولية لتقول عن تركيا إنها أضحت في عهد إردوغان بمثابة أكبر سجن في العالم للصحفيين. فكيف بالسجّان أن يُدافع عن السجين؟ كيف به ينفعل كل هذا الانفعال وكأنه لم يرتكب جرائم مُماثلة في حقّ الإعلاميين والمُعارضين؟ كيف له أن يستغفل الرأي العام هكذا وكأن الناس لا تقرأ وتتابع، أو كأنهم فقدوا الذاكرة؟ على أية حال دعونا نفتح ملف الحريات الإعلامية في تركيا وبإيجاز حتى لا تختلط الأمور على الناس ويحسبون أنهم أمام دولة تحمي الصحفيين وتأخذ بثأرهم حين يُعذّبون أو يُقتَلون. والحقيقة غير ذلك تماماً.

أولا: تنفعل تركيا (وهي في الواقع تبتزّ) في قضية جمال خاشقجي منذ بدايتها وعبر طريقة التسريب التدريجي والإدارة الماكِرة للملف. لكن هذا الأداء لم يلغ الذاكرة بعد، فتاريخ انتهاك حقوق الإعلاميين من قِبَل إردوغان تاريخ حافِل بالمثالب التي لا تقلّ بشاعة عن جريمة خاشقجي. فقبل عدّة أشهر علي سبيل المثال، نشرَ مركز "نسمات" للدراسات الاجتماعية والحضارية بالتعاون مع موقع جريدة "زمان التركية" تقريراً مهماً حول الوضع المُزري للصحافة ومُعاناة الصحفيين في تركيا، والذي أضحي يُدار بقانون الطوارئ. يقع التقرير في 38 صفحة، ويتكوّن من خمسة عناوين رئيسية وهي "حقائق وأرقام"، و"سيطرة الخوف على المشهد الإعلامي"، و"مُعاناة الصحفيين داخل السجون التركية"، و"أوضاع الصحفيين المعيشية خارج السجون"، و"الصحفيون المشرّدون في المنافي"، وذلك بالإضافة إلى مُقدّمة وخاتِمة وملاحِق.

في المقدّمة يقول التقرير نصّاً "لقد غدت تركيا من أسوأ دول العالم من حيث التعامل مع الصحفيين، حيث صنّفها الاتحاد الدولي للصحفيين بأنها أكبر سجن للصحفيين في العالم للعام الثاني على التوالي، إذ يمثّل الصحافيون المُعتقلون في تركيا، نصف عدد الصحافيين المُعتقلين على مستوى العالم". كما نوّه التقرير بأن شدّة القمع الذي تُمارسه الحكومة في حقّ وسائل الإعلام جعلت البعض يصفون ما يحدث بأنه "موت للصحافة".

وأكّد التقرير أن 319 صحافياً معتقلاً يقبعون الآن في السجون منذ صبيحة محاولة الانقلاب ضدّ إردوغان في 15-7- 2016 وحتى الآن. كما صدرت مُذكّرات اعتقال بحق 142 صحافياً آخرين مشرّدين في خارج البلاد، مشيراً إلى أن 839 صحافياً حُوكِموا قضائياً خلال عام 2017 على خلفيّة تقارير صحفية أصدروها أو شاركوا في إعدادها، طبقاً لما أوردته مؤسّسة الصحفيين الأتراك.

أما عن وسائل الإعلام التي أُغلِقت خلال العامين الماضيين فقط فوصل مجموعها حتى الآن إلى 189 وسيلة إعلامية مختلفة، منها: 5 وكالات أنباء، 62 جريدة، 19 مجلة، 14 راديو، 29 قناة تلفزيونية، 29 داراً للنشر هذا فضلاً عن كثير من القنوات والإذاعات الكردية واليسارية والعلوية المستقلّة. بالإضافة إلى حجب 127.000 موقعاً إلكترونياً، و94.000 مدوّنة على شبكة الإنترنت.. ترى هل يمكن بعد تأمّل تلك الأرقام والحقائق أن يصدّق الرأي العام، بأن هكذا دولة، صادقة في حملتها للثأر لدم خاشقجي؟ أم أنها (تلك الحملة) ينطبق عليها القول الشهير: كلمة حق يُراد بها باطل، والباطل هنا هو تلك الحكومة التركية التي أضحت فاقِدة للمصداقية في مجال الحريات الإعلامية والصحفية. وفاقد الشيء حتماً لا يُعطيه ولا يحقّ له التغنّي به كما يفعل إردوغان الآن حيثما حل.

ثانياً:منذ أيام نشرت الوكالة الأميركية الشهيرة (بلومبرج) تقريراً وثائقياً يحمل عنوان «تركيا ليست نموذجاً للمواطن أيضاً» أكّدت فيه أن دولة إردوغان هي الأكبر في العالم في مجال إنتهاك حقوق الصحفيين وتعذيبهم واعتقالهم، وأن من واجب العالم ألا يصدّق دموعها المُنسكبة في قضية خاشقجي لأنها مارست مع الإعلام والصحافة وسائل إرهاب مُماثلة. واستخدمت قضية خاشقجي ليس للبحث عن الحقيقة وإقامة العدالة لكن وبالأساس لتجميل صورتها، وأن كبار القادة الأتراك الذين انتهكوا حقوق الصحافيين في بلادهم أضحوا بعد قضية خاشقجي يتكلّمون وكأنهم أعضاء مؤسّسين في منظّمات حقوق الإنسان مثل منظّمة هيومان رايتس ووتش.

وأكّد التقرير أن الحكومة التركية تشكّل خطراً عظيماً على حرية التعبير، والصحافة في البلاد.

ثالثاً: إن المعني والدلالة المهمّة التي نستخلصها من تلك التقارير والوثائق الدولية، هو أن مشهد الحريات الإعلامية والصحفية في تركيا – إردوغان، مشهد حافِل بالتناقُض وفُقدان المصداقية. لأنه يطالب الآخرين بما لم يلتزم هو به في هذا المجال. تماماً مثل موقفها تجاه تمويل وتسليح ورعاية الإرهاب في سوريا منذ بدء هذا الربيع المُزيّف (2011). فتركيا حين تدّعي مُحاربة الإرهاب لا تجد مَن يُصدّقها على الأرض، فجماعات النصرة وداعش وأحرار الشام وغيرها من الـ120 فصيلاً مُسلّحاً في إدلب شمال سوريا، يدينون في فاعلية إرهابهم بل وفي بقائهم أحياء للدعم التركي. فكيف نصدّق أن هكذا دولة تقاوِم الإرهاب وهي مَن صنعته على عينها؟ حتى الروس والذين وقّعوا معهم اتفاق سوتشي، يرون إردوغان غير صادِق في تعهّدادته وفي مقاومته المزعومة للإرهاب. نفس الأمر ينسحب على قضية الحريات العامة وفي قلبها حرية الإعلام والصحافة التي تُثبت الحقائق يومياً، فقدان حكومة إردوجغان للحد الأدني من المصداقية بشأنها. وهو الأمر الذي يُعطي لهذا السؤال حجيّته: كيف بمَن ينتهك كرامة مواطنيه من إعلاميين وقضاة وضبّاط جيش ومُدرّسي وغيرهم ممَن سُجِنوا وأُبعِدوا وعُذّبوا بعد محاولة الانقلاب ضدّ إردوغان؛ كيف لمثل تلك الحكومة أن تدّعي وصلاً بالحرية الإعلامية وحقوق الإنسان؟ سؤال برسم الغيب.

المصدر: الميادين

حول الموقع

سام برس