بقلم/ د. محمد السعيد إدريس
إنه زمن الاختيار الصعب، والمعنِّى بهذا الاختيار هم كل الأمة العربية حكاماً ومحكومين. فالعالم العربى الذى عاش لفترة زمنية عنف الصراع عليه منذ أواخر القرن التاسع عشر، بين الموجة الاستعمارية الأوروبية، التى اجتاحت أقطاراً عربية عديدة وبين بقايا الإمبراطورية العثمانية وما كانت تتخفى وراءه من «خلافة إسلامية» سرعان ما أضحى خاضعاً للاستعمار الغربى فى أعتى تجلياته عقب سقوط الإمبراطورية العثمانية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918.

وفى المجمل جرى «تغريب» العقل والوعى العربى طيلة تلك السنوات، واستطاع تيار التغريب أن تكون له الغلبة على التيارات الأخرى خاصة الإسلامية منها واليسارية، واستمر هذا الحال إلى أن تفجر عصر التحرر العربى والثورة العربية، كإحدى نتائج الحرب العالمية الثانية وظهور نظام القطبية الثنائية: الأمريكية والسوفيتية، وأفول عصر الاستعمار الغربى البريطانى - الفرنسى على وجه الخصوص، وبالذات مع انتصار الثورة فى مصر بقيادة الزعيم جمال عبدالناصر والحصول على الاستقلال وجلاء القوات البريطانية عام 1954، ثم فشل العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 الذى أطلق موجة ثورية هائلة أثمرت فيها كل مبادئ التحرر والوحدة والاستقلال وحرية الإرادة.

هذه الموجة الثورية العربية الجديدة وما تطلعت إليه من مشروع وحدوى عربى استطاعت أن تدعم وتقود موجة موازية من التحرر الوطنى فى آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وكان المؤتمر الآسيوى – الإفريقى فى باندونج بإندونيسيا عام 1955 الباب الواسع لتأسيس «حركة الحياد الإيجابى" ثم "حركة عدم الانحياز» التى تجرأت على رفض أن تكون أداة فى استقطاب عالمى بين العالم الرأسمالى الغربى الذى تقوده الولايات المتحدة وبين العالم الاشتراكى الذى يقوده الاتحاد السوفيتى، وسعت لتأسيس كتلة عالمية ثالثة لدول تأمل فى التحرر من الاستعمار وامتلاك حرية قرارها الوطنى بعيداً عن أجواء الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو، لكن موجة الانكسارات والهزائم التى واجهت دول حركة عدم الانحياز سواء على صعيد تجارب التنمية أو على صعيد استقلالية القرار الوطنى، أثرت كثيراً على قوة وفعالية الحركة ، وتفاقم تراجع هذه الفعالية مع سقوط نظام القطبية الثنائية وتفكك الاتحاد السوفيتى عام 1991 ونجاح الولايات المتحدة فى فرض نفسها زعيمة لنظام عالمى جديد أحادى القطبية، حرصت على تحويله إلى «نظام إمبراطورى» تمارس من خلاله أعتى صور التسلط والاستبداد فى إدارة هذا النظام.

كان العرب أبرز من دفعوا ثمن سقوط النظام العالمى ثنائى القطبية وتسلط النظام الأمريكى أحادى القطبية. فقد تزامن ظهور هذا النظام الجديد بحدث عربى جلل هزَّ أركان العالم العربى كله عندما قام العراق بغزو الكويت (2 أغسطس 1990). فقد تزعمت الولايات المتحدة تأسيس تحالف دولى لـ «تحرير الكويت» أخذ اسم «عاصفة الصحراء»، حرر الكويت فعلاً لكنه فرض التسلط الأمريكى على كل ما يسمى بـ «الشأن العربى» وبالتحديد فى اتجاهين، الأول :

ما يتعلق بالأمن الخليجى، حيث فرضت الولايات المتحدة نفسها حامية لأمن الخليج، وتفكيك أى رابطة بين هذا الأمن الخليجى ومجمل الأمن القومى العربى، خاصة بعد غزوها للعراق واحتلاله عام 2003، فقد عملت على إعادة رسم الخرائط السياسية العربية، وتقسيم ما سبق تقسيمه ولكن على أسس دينية وطائفية وعرقية، وتفكيك النظام العربى لصالح نظام آخر بديل شرق أوسطى يضع كيان الاحتلال الإسرائيلى طرفا أساسياً فى هيكليته. أما الاتجاه الثاني فيتعلق بالقضية الفلسطينية.

فقد تزامن وتوازى مع المسار الأمريكى للسيطرة والهيمنة على الأمن الخليجى وتفكيك هيكلية الأمن القومى العربى عقب حرب تحرير الكويت عام 1991، مسعى آخر هو تصفية القضية الفلسطينية، وإنهاء كونها «قضية مركزية عربية» وفرض مسار تطبيع العلاقات بين الدول العربية وكيان الاحتلال كخيار لا فكاك منه ابتداءً من مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، وتطور الأمر فى ظل رئاسة الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب إلى طرح مشروع أمريكى أخذ مسمى «صفقة القرن»، كان يعنى من ناحية تصفية القضية الفلسطينية ودعم خيار "الدولة اليهودية" على أرض فلسطين وجعل القدس (الشرقية والغربية) عاصمة أبدية موحدة لكيان الاحتلال، وفرض مشروع التحالف العربى – الإسرائيلى تحت القيادة الأمريكية كمشروع بديل للنظام الإقليمى العربى .

عاش العرب فى ظل هذا التسلط الأمريكى، والآن يعيش العرب، مع غيرهم من دول العالم، متغيرات عالمية هائلة أبرزها دخول الإمبراطورية الأمريكية والعصر الأمريكى «مرحلة الأفول» وبروز الصين الشعبية وروسيا ودول إقليمية أخرى كبرى كقوى عالمية منافسة للولايات المتحدة والتحالف الأطلسى الغربى، سواء بالدعوة إلى تأسيس نظام عالمى متعدد الأقطاب أكثر عدالة وديمقراطية بديل للنظام الأمريكى أحادى القطبية ، أو عبر تأسيس كتل اقتصادية وأمنية منافسة للتكتل الغربى مثل «منظمة شنغهاى» التى تقودها روسيا والصين والهند وتضم دولاً إقليمية أخرى مهمة مثل باكستان وإيران، وكذلك منظمة «بريكس» الاقتصادية التى تضم الصين وروسيا وجنوب إفريقيا والبرازيل.

وجاءت حرب روسيا فى أوكرانيا لتكشف هشاشة القوة الأمريكية والتحالف الغربى وتضع علامات استفهام تؤكد أن العالم أمام تطورات مهمة جديدة.

نحن العرب نواجه مكاشفة شديدة الوضوح أمام هذه التطورات، أدركتها القمة العربية الأخيرة التى عقدت فى الجزائر (1-2 نوفمبر 2022) بالدعوة إلى «عصرنة العمل العربى المشترك» وإلى تطوير رؤية عربية مشتركة للتعامل مع التطورات الدولية الحديثة.مخرجات القمة العربية - الصينية وما ورد من تعهدات على لسان الرئيس الصينى شى جين بينج تكشف عن أن العرب أمامهم فرصة تاريخية للشراكة مع القوة الصينية والقوة الروسية والتحرر من الهيمنة الأمريكية، شراكة ندية وليس انحيازاً إلى استقطاب دولى، فالعرب أمامهم الآن فرصة استعادة الذات واستعادة الهوية واستعادة تحرير القرار العربى والبدء فى إعادة تشكيل كيان عربى تكاملى قادر على دعم هذا الاختيار.

نقلاً عن الاهرام

حول الموقع

سام برس