بقلم/ يحيى حسين العرشي
نعم انه عنوان وطننا اليمن الواحد.. ذلك ان كل قطر من اقطار العالم ومنها عالمنا العربي يُعرف بشخصيه منه.. إمَّا ان تكون فكرية واسعة ، أو إصلاحيه تنويريه مؤثره أو مؤرخاً موسوعياً ، أو شاعراً موهوباً، أو سياسياً وطنياً ، أو فناناً مبدعاً في فن من الفنون الراقية التي قدمت للحياة ، وللإنسانية عصارة جهدها ، وابداعها ، ولامجال لذكر أسماء كهذه من مص ر، أو سوريا ، أو لبنان.. كتونس الشابي والثعالبي، أو المغرب الجابري وعلال الفاسي، وعن وطننا اليمن الواحد، المقالح والبردوني وباكثير وجراده والزبيري،لذلك فلفقيدنا عبدالعزيز المقالح بما قدمه لوطنه من عطاء فكري ووطني تنويري وأدبي رفيع مايخلّده وماجعله عنوان وطننا.

علاقتي بالمرحوم منذ وقت مبكر، لأسباب كثيره منها المصاهره فالمرحومه زوجته أم أولاده النجباء شقيقة لزوجة العم عبدالله بن عبدالله العرشي.. وسكنه الأول في صنعاء القديمة في حي باب شعوب الزمر ليس بعيداً عن منزلي في حي القزالي ثم ان (منزلة) المرحوم البردوني في مسجد باب السباح كانت في بداياتي مكاناً للقاء به وبآخرين كالعلامة أحمد سلامه والاجلاء يحيى الصديق، وعبدالله حمران، وأحمد العماري وغيرهم،لقد كان الفقيد حينها من أبرز المدرسين في المتوسطه والثانوية، ومن أبرز المذيعين في إذاعة صنعاء أدى واجبه..

ذكريات كثيرة لنا مع انطلاقة ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م، الكثير منها سرَّتنا والأقل منها أحزنتنا كاليوم المشئوم في الأول من إبريل عام 1964م، باستشهاد أبي الأحرار محمد محمود الزبيري.. كنا معاً لحظة مواراة جثمانه في مقبرة الشهداء.. سيطرت علينا في المشهد الحزين مخاوف جمه عن مستقبل الثورة والجمهورية،وبقي حديثنا مترجلين عائدين إلى سكنينا والألم لم يفارقنا، واستمرت لقاءاتنا في ظروف صنعاء المتطلعه لثبات الثورة والجمهورية وتحقيق أهدافها، مع عدد من الشخصيات منهم عبدالسلام صبره، ومحمد عبدالله الفسيل، وعبد الوهاب الأنسي، وصالح الاشول وغيرهم.

أدى الفقيد واجبه التنويري الكبير عبر إذاعة صنعاء بما جعله بعطائه الفكري والثقافي وادائه بصوته الجميل المتميز من ابرز مذيعي إذاعة صنعاء التي افتتح فيها بصوته الهادء بيانات الثورة والجمهورية بالآية الكريمة ( إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وَكَذَالِكَ يَفْعَلُونَ).

ولما استقر في مصر ممثلاً لبلادنا في الجامعة العربية ثم للدراسات العليا لنيل الماجستير والدكتوراه في جامعة القاهرة، لم ينقطع تواصلنا بالمراسلات المتبادلة، احتفظ ببعضها، وأثناء زياراتي لمصر في مهمة عمل بين عامي 68-1976م، كانت فرصه للقاء به،ورغم دوره الوطني والثقافي الرائد فلم يسلم من المعاناه فقد تعرض أثناء وجوده في مصر لإيقاف مرتبه، ، حيث جاءني ذات يوم في عام 1975م، إلى المنزل في القزالي أثناء عملي رئيساً للجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة المرحوم حسين عبيد وهو من زملائه في إذاعة صنعاء ثم في القاهرة أثناء دراستهما ليبلغني بذلك، وقمنا معاً بمتابعة إعادة مرتبه لدى الجهات المختصة ، رغم ان المرحوم لم يتابع موضوعه الشخصي ولم يقم بأي اتصال أو شكوى.
أتذكر انه من باب تشجيعه لإسراعه بعودته إلى صنعاء قلت له في رسالة له بان جامعة صنعاء تنتظرك انها مكانك لخدمة وطنك في عهدها الجديد.

ولما عاد إلى صنعاء التي عشقها لطقسها وتضاريسها وبموقعها والحياة فيها وظروفها بكل مافيها.. بل إنه تغزل بها.. وتمسك بالعيش فيها.. لايتنفس الاَّ منها وفيها.. لم يغادرها حتى لقي ربه عدا مره واحده إلى عدن لحضور إعلان استعادة وحدة الوطن ورفع علم الجمهورية في الثاني والعشرين من مايو عام 1990م، الذي جاهد من أجل تحقيقه بقلمه وبروحه، فضل العيش فيها على كل مدن العالم التي زارها وكتب عنها من القاهرة وحتى باريس، وعند عودته صنعاء عام 1978م، في عهد المرحوم أخي القاضي عبدالكريم العرشي الذي كان رئيساً لمجلس الشعب التأسيسي،وفقيدنا الدكتور عبدالعزيز المقالح عضواً فيه اقترح أخي أن يكون بعضويته بدرجة وزير وهو ماتم حتى عُين رئيساً لجامعة صنعاء، مقيلنا يجمعنا في السنوات الأولى لعودته إمّا في سكني أو سكن المرحوم عبدالله حمران، أو المرحوم أحمد المروني، وثلاثتنا متجاورين في حي الزراعة، يحضره عدد من الشخصيات الثقافية والسياسية.. منهم إبراهيم الحضراني،ومحمد أحمد الرعدي، وصالح الاشول رحمة الله عليهم وآخرون،كما كان مقيلنا مكاناً مناسباً لكل من زار بلادنا من الشعراء والكتاب خاصة في مناسباتنا الوطنية، من مصر، وسوريا، ولبنان، والأردن،والكويت.. كالشاعر أبو سلمى ، وادونيس،والبياتي، وبنيس، وبراده، ومحمود معروف، وكمال أبو ديب وغيرهم.

لم يكن لجامعة صنعاء لسنوات طويلة رئيساً لها فحسب والتي استقدم للجامعة أفضل الكفاءات العربية المصرية والعراقية والسورية وغيرها، وأسس في عهده عدداً من الكليات بل لقد كان الأب الروحي لمعظم طلبتها خاصة القادمين من الريف مقدراً لظروف معاناتهم وصعوبة تحصيلهم في الثانوية العامة، وان انخفاض درجات بعضهم لايعني عدم إمكانية أن يكون لهم تحصيلهم العلمي المتفوق في الكليات التي يرغبون فيها فيتم له التوجيه بمعالجات خاصة أن لها مايبررها.. مكتبه في جامعة صنعاء القديمة يفضله على مكتبه الفاخر في مباني الجامعة الجديدة، ولم يكن في بوابته حاجبٌ يمنع من يرغب مقابلته فمكتبه مفتوح للجميع للمدرس والطالب والزائر بكل تواضع بل ببشاشته وبسمته التي لاتفارقه ليقضي حاجة من يقصده من داخل الجامعة أو من خارجها،وهكذا كان في مركز الدراسات والبحوث لسنوات طويلة أيضاً يرتاده الأدباء والكتاب وطلاب العلم وعلاوة على ذلك مقيله في سكنه يرتاده الشباب والموهوب منهم للشعر والكتابة ليأخذ بيدهم وليجدوا من الفقيد مايفيدهم من ملاحظات وتشجيع وليكون لهم شانهم.

وأتذكر في مهامي الوزارية لثلاثة وعشرين عاماً ومنها الإعلام والثقافة.. كان المرحوم يقترح علىَّ من يراه فيه الكفاءة لتعيينه في المكان المناسب وهو بذلك عوناً لي، وعوناً لمن يرى فيه الكفاءة والرغبة.. كما أنه في أغلب التشكيلات الحكومية كان يقدم بعض الأسماء من أساتذة الجامعة لاختيار من يناسب منهم عضواً في الحكومة، هكذا كان الفقيد المقالح.. ورغم أنشغاله التعليمي والثقافي فإنه لايتردد في القيام بأي جهد أو مساهمه وطنية لها طابعها السياسي الشعبي، ونتذكر جميعاً دوره الوطني عام 2014م، عند إعلان الاصطفاف الشعبي في ذلك اليوم المشهود في قاعة مركز الدراسات والبحوث وجاء في كلمته قوله ( لم يعد خافياً ماوصل إليه حال البلاد في هذه الآونه وماتتعرض له من انشقاقات سياسية وصراعات طائفيه، ومن حروب تقود إلى التفتت والانهيار، وهو مايفرض على العقلاء أو من تبقى منهم في هذا الوطن الجريح ليقولوا أراءهم ويكون لهم موقفهم الواضح والصريح مما يحدث خوفاً من تمادي الإخوة الأعداء هنا وهناك في الاسترسال في الصراع الدموي وانتهاك حرمة الأخوة الدينية والوطنية وماتقود إليه من عواقب تطال الجميع ولن يسلم منها ضالع ولا بريء وسيكون وقودها الأول من يشعلون نيرانها ويحشدون لها في السر والعلن.

لقد جاء هذا الاصطفاف الشعبي استجابة وطنية اخلاقية في محاولة لرأب الصدع في الصف الوطني، ولن يكون طرفاً في المنازعات والخصومات السياسية والطائفية ولكي ينجح في مسعاه الاصطفافي فانه سينظر إلى الجميع بوصفهم أخوة أخطأوا الطريق إلى الهدف الذي يرو أن في تحقيقة مصلحة للوطن وأبنائه.. وسيكون في مقدمة مايضطلع به هذا الاصطفاف المحايد الذي لاينحاز إلا إلى الوطن ومصلحته العليا، أن ينبه ويحذر من عواقب التمادي في الصراعات وإثارة الخصومات بين أبناء العائلة اليمنية الواحدة التي لم تشهد عبر القرون المتوالية ماشهدته في هذه الآونه من إنقسام خارج نطاق كل الثوابت الدينية والوطنية والأخلاقية، وأن يقتل المواطن أخاه المواطن بدم بارد، ودون اعتبار للاخوة والمواطنة أو حرص على مبدأ التعايش في وطن هو للجميع ومن حق الجميع.

هذا آوان العمل الصادق المخلص لإخراج الوطن من أزماته الطاحنة وإنقاذ أبنائه مما ينتظرهم من مخاطر لاتهدد أمنهم واستقرارهم فحسب وأنما تهدد وحدتهم .. أنني لا أكاد أصدق ما أراه وأسمعه مما يحدث في بلادنا وكأنه كابوس فظيع من تلك الكوابيس التي تعرض للإنسان في منامه.. أسأل الله أن يحمي الوطن من الكوابيس الواقعية وأن يجمع أبناءه على طريق العدل والحق، طريق الجمهورية والوحدة والديمقراطية ومخرجات الحوار، ومعاً من أجل اليمن).
اليس في ذلك من الحكمة ومن التنبؤ والتحذير من فقيدنا المقالح لما وصلنا إليه.

عندما كنت ازوره في مرضه وهي زيارات معتاده متبادله بيننا في صحته في سكني وسكنه في كل مناسبة لعيد الفطر والاضحى وغيرهما.. حتى توقف عن الخروج من منزله كم كان تأثري لحالته الصحية ، وبما عبر عنها في قصيدتيه اللتين جاء في مطلعهما.. الأولى :

أنا هالك حتماً

فما الداعي إلى تأجيل موتي

وفي الثانية:

دثريني

وشدي على كفني

لقد ودع فيهما الحياة ، وأتذكر حينما جاء بهما إلى مكتبه في مركز الدراسات وكنت معه في بيته ثم في سيارته اترجل معه بصعوبة في فناء المركز مشجعاً له على المشي حتى جلوسنا في مكتبه وهو يراجعهما ليعطيهما لسكرتاريته لطبعاتهما ويهديني نسخة منهما ، كنت إلى جانبه ، وبحضور الأديب محمد عبدالسلام منصور أحسست بما هو عليه وبما يشعر به وبالمه كانه فيني.

لقد اضعف المرض جسده ولكنه لم يفقده ذاكرته القوية واحساسه بكل ماهو حوله في الوطن وفي البيت.. لقد قام كل أولاده بكل واجب وكل رعاية صحية لسنوات مرضه وفي مقدمتهم أبنه محمد بهدوئه وخلقه، وأبنته أمل بصبرها وقدرتها على إدارة كل احواله وكانت أكثر من طبيب وأكثر من ممرض وحرصت أن لايصل إلى مسامعه مايزعجه أو يؤذيه كوفاة قريب له رجالاً ونساء أووفاة صديق له ومن يسأل عنهم.. وأتذكر حينما سألني عن صحة زميله ورفيقه المرحوم محمد أحمد الرعدي الذي كان المرحوم في زيارته قبل مرضه لم اخبره بوفاته.. وكذلك عن اخرين في الداخل والخارج.

لقد كانت مناسبة الذكرى الخمسين لثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م، والاحتفال في منزله في سبتمبر الماضي وحلوى المناسبة بين يديه من قبل إسرته وعدد من محبيه.. تعبيراً حميمياً صادقاً ومخلصاً لارتباطه بوطنه وبوحدته.
كما كان فقيدنا يرحب بكل من دخل عليه وصافحه ويذكر أسمه وأنا منهم بابتسامته المعهودة.
ولما تلقيت نبأ وفاته وأنا خارج الوطن للعلاج.. صعقت بالخبر..

نعم.. لقد رحل رفيق عمر.. رفيق درب.. لم تنقطع بنا الطريق.. طريق الثورة والجمهورية والوحدة.. كل ما ذكر أسمك ياعبد العزيز.. فقد ذكر اليمن.. أنت وطن.. تركته لمن.. في عهد كله محن.. العزاء لكل الوطن..
رحمة الله عليك وأسكنك فسيح جناته ..

*عضو مجلس الشورى

من صفحة الكاتب بالفيسبوك

حول الموقع

سام برس