بقلم/ محمد الرميحي
أثار تقرير صدر أخيراً من وكالة بلومبرغ (وكالة أنباء تهتم بالاقتصاد) حول الكويت، وكان بعنوان "الثروة الطائلة لم تصنع تقدماً" - والمعنى واضح لا يحتاج إلى تفسير - حفيظة عدد من المتابعين في الكويت ودول الخليج، وفتح نقاشاً في وسائل التواصل (المقفلة) بين نخبة مهتمة. جاء في التقرير القول: "تأخرت الكويت في مجالات عدة، ويسود تركيز الاهتمام فيها على القضايا الثانوية في المجال العام، بدلاً من التركيز على مجالي الاقتصاد والتنمية، فيما تتقدم دول خليجية مجاورة"، إلى آخر التقرير.

يعلق متابعون على ذلك التقرير بقول أحدهم: "مع الأسف حتى مع الانتخابات الأخيرة والحكومة الجديدة، معظم الناس تفاءلت خيراً، ولكن الشواهد خلاف ذلك، وعند التهديد بعدم التعاون يعني الأمور ما زالت كما هي، وتتجه إلى الأسوأ". ويتدخل آخر بالقول: "هل يعقل بعد 70 عاماً من الممارسة الديموقراطية، أنهم (أي الكويتيين) لا يعرفون كيف يمارسون الديموقراطية؟"، ويعلق آخر: "ما تعيشه الكويت سوء إدارة ولا أظن أن له علاقة بالديموقراطية". ثم يتابع متدخل آخر بالقول: "سوء الإدارة جزء من المشكلة، ولكن عندما يعطل البرلمان توقيع اتفاقيات لأسباب تافهة، فلا تستطيع الحكومة اتخاذ أي قرار كبير إلا بموافقة البرلمان". ثم يأتي آخر ليقول: "لكن الديموقراطية في الكويت كانت ناجحة ومتألقة وملهمة في ستينات القرن الماضي وسبعيناته من دون الحاجة إلى أحزاب، وبالتمثيل الحكومي نفسه في مجلس الأمة، ما الذي حصل بعد ذلك للتّراجع وتصل إلى ما وصلت إليه؟". يرد آخر: "الظروف السائدة إقليمياً ودولياً آنذاك مختلفة، لا يمكن أن نقارن أعضاء ذلك الزمان بهذا الزمان، وتدخل المال السياسي وسيادة مفاهيم القوى القبلية والطائفية".

النقاش السابق الذي لخصت ينم عن تساؤل: هل الديموقراطية بحد ذاتها معطلة للتنمية؟ أم أن ممارستها قصرت عن تطويرها؟ سيظل ذلك التساؤل معلقاً. إلا أن كثيرين يرون أن وجود الديموقراطية خير من عدم وجودها، فهي حتى في المجتمعات المتقدمة تواجه صعوبات، الفرق أنها هناك تقوم بحل تلك الصعوبات وهنا يتعذر الحل!

ليس في مسيرة المجتمعات أسود وأبيض، هناك دائماً الرمادي على درجاته، والمجتمع الكويتي يزخر بالكفاءات من جهة، ويتمتع بسقف عال من النقاش الحر (في بعضه يصل إلى التنمر والحمق والثرثرة)، ولكنه في الغالب مفتوح، وهذا ما لا يتوفر في أماكن أخرى.

ولكن هل يواجه المجتمع أزمة تنمية؟ في الغالب نعم، وأين تكمن الأزمة؟

حتى نعرف أين تكمن الأزمة علينا أن نعرف أن المجتمع، أي مجتمع، يتكون في الغالب من مجموعة من الأنظمة (سواء كانت ناضجة أم قابلة للنضج) منها النظام السياسي والنظام القانوني والنظام التربوي والنظام الاجتماعي والنظام الثقافي، مع عدد آخر من الأنظمة المساندة، تلك الأنظمة تتساند وتتقاطع، إلا أن قائد الأنظمة هو النظام السياسي، والنظام السياسي في الكويت ينتابه عوار مزمن، فقد صمم هذا النظام كي يتطور مع الزمن ولكنه لم يفعل، بسبب إرادي أو غير إرادي.

الدستور الكويتي الصادر في تشرين الثاني (نوفمبر) 1962 نص على عدم المساس بنصوصه لمدة خمس سنوات، حتى يتبين بعد التجربة صلاحية بعض نصوصه من عدمها! إلا أن تلك الخمس سنوات مرت عليها سنوات طويلة حتى من دون نقاش جاد في احتمال التطوير بناءً على التجربة وتطور المجتمع، بل إن الدستور اشترط من أجل النظر فيه أن يكون باتجاه حريات أكبر! وتلك عقبة أخرى في ضوء تيار يسعى إلى رد المجتمع إلى مكان لم يكن قد مر به، وهو المحافظة الشديدة والتي لا تشبه حتى المجتمع الكويتي القديم!

واستمرت التجربة على ما هي عليه، تراكم السلبيات وتفتقد الإيجابيات، وشُكلت أعراف تسيء إلى فكرة ممارسة الديموقراطية، وكل ما يتغير هو خارج الدستور (أي في قانون الانتخاب) من حيث عدد الدوائر، وعدد الأعضاء الذين يحق للمواطن انتخابهم. وعلى مر التجربة تحولت الدوائر الانتخابية من عشر إلى خمس وعشرين إلى خمس، وعدد الأصوات من خمسة إلى اثنين إلى واحد. كل تلك التجارب لم تغير من الجوهر شيئاً يُذكر.

يجادل بعضهم في أن الوضع لن يتغير كثيراً، إذ إن ما هو قائم (انتخاب خمسين عضواً) على أساس فردي، وكل عضو في الغالب له أجندة تحمل الكثير من الشخصانية أو الفئوية، ولكنها لا تحمل كثيراً - لمعظم الأعضاء - (العناية بالخير العام) لأن العضو يخضع لضغوط مختلفة، تلك الضغوط تمارس على الحكومة، فيختل العمل العام، لأن الكثير من تلك الضغوط متضاربة ومتناقضة، فيتخذ القرار ونقيضه في الوقت نفسه.

التفاصيل كثيرة، ولكن الإصلاح الذي حتى الآن لا يبدو أن أحداً قد فكر فيه أو قادر على القيام به ينبع في الأساس من تغيير جذري في قانون الانتخاب، والذي يجب أن ينظم على قاعدة منابر تتخلص من الطائفية والقبلية والمناطقية، لها قانون شفاف من حيث الأعضاء والتمويل والبرامج، وقتها تستطيع الحكومة أن تتفاعل مع تلك المنابر، وقد يكون بعضها منسجماً ومؤيداً للحكومة وأخرى قد تكون معارضة.

الحديث عن المنابر "مكروه"، رغم أن هناك فيلاً أبيض ضخماً في الغرفة، فهناك منبران، واحد مبني على خلفية طائفية وآخر على خلفية الإسلام السياسي، غير مقننين وغير شفافين ولكنهما مؤثران.

من غير تغيير في قانون الانتخاب وإقامة المنابر على قواعد قانونية، فإن محاولات الإصلاح ستكون جانبية وغير فعالة، وسيبقى الأمر على ما هو عليه من أزمة تقود إلى أختها وبالضرورة يتعطل العمل العام. ذاك اجتهاد قد يصح، إلا أن المطلوب فتح باب نقاش مجتمعي لتدارس كيفية الحصول على الحسنين: الديموقراطية والتنمية بنجاح!
نقلا عن النهار

حول الموقع

سام برس