بقلم/ محمد الكيحل
تعد طبيعة وأنماط تفاعلات دول المنطقة العربية وغيرها من دول الشرق الأوسط مع القوى الدولية الكبرى، من أهم القضايا الحاكمة لحالة المنطقة الاستراتيجية. وتشير الخبرة التاريخية إلى أن الشرق الأوسط، بموارده الطبيعية الغنية وموقعه الاستراتيجي، ظل منذ حقبة الاستعمار الأوروبي مرورا بالحرب الباردة والثنائية القطبية الدولية وما بعدها وصولا إلى الأحادية القطبية الأمريكية، فريسة للتدخل الخارجي المكثف. إذ سعت القوى الدولية الكبرى، تاريخيا، إلى منع دول المنطقة من اتباع سياسات خارجية وبنا نظام اقليمي مستقل، بالتوازي مع العمل على إعاقة صعود قوى وتكتلات اقليمية قوية، بحيث كان مصير المنطقة ومسارها رهنا بإرادة القوى الدولية صاحبة النفوذ والسيطرة. ووفقا لوصف كارل براون، فقد كان الشرق الأوسط في ذروة الحرب الباردة المنطقة الأكثر اختراقا في العالم.

على مدى العقود الماضية، مرت دول المنطقة، وفي مقدمتها الدول العربية، بتجارب سلبية مريرة، بدءا من اتفاقية سايس- بيكو، فوعد بلفور البريطاني الغاشم عام 1917 الذي مهد لقياد دولة إسرائيل، مرورا بالتدخلات المتتابعة في شؤون المنطقة من جانب الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق في حقبة الثنائية القطبية خلال الحرب الباردة، وصولا إلى عصر الأحادية القطبية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار قلاع المعسكر الشرقي منذ أواخر عقد الثمانينيات من القرن المنصرم ، وما صاحبها من أحداث عصفت باستقرار وأمن المنطقة، التي كان أحدثها وأهمها ما عرف ب ” الانتقاضات العربية” مطلع العقد الثاني من القرن الحالي.

على ضوء هذه الخبرة التاريخية القاسية، بدأت دول الشرق الأوسط تدرك حقيقية أهداف القوى الدولية الكبرى تجاه المنطقة. فظهرت تدريجيا حالة من الوعي، تشكل بموجبها نضج استراتيجي دفع دول المنطقة إلى إعادة النظر في مضمون واتجاه وآليات علاقاتها وسياساتها تجاه القوى الخارجية، خصوصا منها تلك التي هيمنت تقليديا على معظم مقدرات المنطقة ومواردها لعقود. من جهة أخرى عززت الخبرة المعاصرة لسياسات القوى الكبرى وسلوكها الاستراتيجي خارج الشرق الأوسط الاقتناعات والدروس التي استلهتها دول المنطقة من خبرتها التاريخية فيما يخص القوى العالمية المهيمنة صاحبة المصالح والنفوذ والأدوار المؤثرة في حركة التفاعلات الإقليمية.

أدت الحرب الأوكرانية وما كشفت عنه من أهمية للمنطقة العربية والوزن الاستراتيجي لدول منطقة الشرق الأوسط عامة، إلى عملية إعادة تقييم لمعالجة بعض التوترات في العلاقات الأمريكية- العربية وإعادة التوازن لها، وبرزت أطراف دولية أخرى أصبحت لها أدوار اقتصادية وأجندات جيوسياسية في هذه المنطقة الحيوية، خاصة وأن هذه المنطقة كانت ولاتزال مفترق طرق للمصالح العالمية، كما كانت تاريخيا، ساحة رئيسية للقوى الأجنبية للتنافس على النفوذ وعلى الموارد والوصول إلى الممرات المائية الاستراتيجية في العالم.

في ظل الصراع الدائر حاليا بين حركة حماس وإسرائيل، كثر الحديث مجددا عن مستقبل المنطقة العربية في ظل اندحار النظام العربي الإقليمي منذ حرب الخليج الثانية، وبدأ الحديث مجددا على بداية تشكل نظام شرق أوسطي جديد بدعامة من الولايات المتحدة الأمريكية، هذا النظام كان له جدور تاريخية قبل بداية هذا الصراع. فهل يشكل هجوم حماس المفاجئ على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، والعملية العسكرية الاسرائيلية غير المتزنة اللاحقة في غزة نقطة تحول محورية في تاريخ الشرق الأوسط؟ وهل يؤشر الدعم الأمريكي غير المقيد لإسرائيل من تفاقم الوضع على إعادة تقييم الديناميات الإقليمية الجارية؟

في الجدور التاريخية لنظام الشرق الأوسط الجديد :
عشية حرب الخليج الأولى، توافرت مؤشرات تفاؤلية بشأن حالة النظام العربي آنذاك ومستقبله. ومع اشتعال حرب الخليج الثانية برزت التناقضات الكامنة في هذا النظام وقضت على تلك المؤشرات التفاؤلية وبدا النظام الإقليمي العربي في طريق للانهيار إن لم يكن قد انهار فعلا. وقد ترافق مع حالة الانهيار هذه انتهاء الحرب الباردة مما كان له أثره السلبي على النظام العربي وذلك من زاوية فقده لحليف استراتيجي فيما كان يعرف وقتداك بالاتحاد السوفياتي، مما أفقده هامش المناورة بين قطبي النظام الدولي الثنائية القطبية، وبرزت الولايات المتحدة الأمريكية كلاعب رئيسي بالمنطقة يمتلك الآليات اللازمة لتأمين مصالح الاستراتيجية ومصالح حلفائه الغربيين وقبل هذا وذلك حماية الدولة العبرية عموما وتزايد ثقل دول الجوار الجغرافي مستفيدة من ذلك من حالة الفراغ الاستراتيجي في منطقة الخليج العربي وآسيا الصغرى، وطرحت تركيا وإيران نفسهما بشكل واضح كطرف في أي ترتيبات حاليا ومستقبلية في منطقة الشرق الأوسط.

ويتوافق مع المتغيرات في البيئة الدولية والإقليمية اتجاه واضح نحو التسوية السلمية لصراع الشرق الأوسط التاريخي ونعي به الصراع العربي الإسرائيلي، وهذا الاتجاه نحو التسوية السلمية هو اتجاه تاريخي يمضي قدما منذ أواخر الستينيات من القرن المنصرم، تخللته صدمات وتقلصات نتيجة تفاعل وتشابك قوى عديدة محلية وإقليمية ودولية. وبناء على اعتبارات البيئة الإقليمية والدولية ومناخ التسوية السائد، ومع حالة الضعف والتفكك والانهيارية على مستوى النظام العربي، كثر الحديث عن نظام شرق أوسطي جديد، يكون مدخلا إلى السلام وتحقيق الرفاه الاقتصادي في المنطقة في إطار هندسة اقتصادية وسياسية جديدة.

لقد سبق للرئيس الاسرائيلي السابق شيمون بيريز أن حدد معالم السلام القادم في منطقة الشرق الأوسط على أنه: ” أولا وقبل كل شيء هندسة معمارية ضخمة، هندسة تاريخية لبناء شرق أوسط جديد متحرر من صراعات الماضي ومستعد لأخذ مكانه في العصر الجديد، العصر الذي لا يطيق المتخلفين ولا يغفل للجهلة”. تقوم أركان هذا النظام على أربعة عناصر أساسية وهي: التقنية الإسرائيلية والمياه التركية والموارد الطاقية الخليجية والعمالة المصرية الرخيصة.

وتفيد التصورات الموضوعة لترتيبات الشرق الاوسط والتي تعتمد آلية المفاوضات متعددة الأطراف كآلية رئيسية لإقامة النظام الشرق الاوسطي الجديد- وقد تم تجريب هذا السيناريو في اتفاقية أوسلو لسنة 1994 بين الفلسطينيين والإسرائيليين تحت رعاية أممية- إلى كونه نظاما يقوم على ربط شرايين الحياة الاقتصادية (المياه، النفط، السياحة، الثقافة) بالاقتصاد الاسرائيلي، وتصبح بعد ذلك تكاليف فك الارتباط عالية جدا بالنسبة للأطراف العربية.

ودون التفصيل في الإطار القانوني أو السياق التاريخي لقيام النظام الشرق أوسطي، يمكن التأكيد أن موضوع التعاون الاقليمي وترتيبات الامن الاقليمي في هذه المنطقة في الوقت الحالي أكثر من أي وقت مضى، يعتبر من أهم القضايا المطروحة في ساحة التسوية السلمية بين الوحدات السياسية والقوى الفاعلة سواء تلك التي تدخل ضمن الإطار الإقليمي للمنطقة أو من خارجها، كل يعتلي منصة حججه أيهما يكون له الأسبقية وفقا للرؤية الاستراتيجية والمصالح القومية لكل أطراف هذه المنطقة وحسبما تقتضي المصالح العليا لها.

من الربيع العربي إلى الشرق الأوسط الجديد
بعيدا عن مخلفات حرب الخليج الثاني وما نجم عنه من تفكك للنظام العربي وبروز ملامح نظام شرق أوسطي جديد، وبالرجوع خطوة إلى الوراء وإلى مسافة زمنية تناهز عقد من الزمن، أدى اندلاع الربيع العربي إلى تسليط الضوء على النقاش حول الشرق الأوسط الجديد حيث عزز القوى الديمقراطية وأطاح بالأنظمة الاستبدادية القائمة. أطلق البعض على هذا التحول اسم “تطبيع التاريخ”، في حين أطلق عليه آخرون اسم “الشرق الأوسط الجديد”. غير أن هذه الفترة التي تميزت بالديمقراطية والتطبيع كانت قصيرة الأجل. إن تعميق الحرب الأهلية في سوريا، والانقلاب العسكري في مصر، والنكسات التي واجهها الثوار الليبيون، والصراع المستمر في اليمن، وصعود جماعات مثل داعش، قد حولت مسار الشرق الأوسط الجديد بعيدا عن مساره الديمقراطي. ونتيجة لذلك أصبحت الديمقراطية والاستقرار قوتين متعارضتين تاركين جانبا الأسباب الجذرية للمشاكل الإقليمية وحجبا التحديات الجديدة التي خلفها الربيع العربي.

ومن اللافت للنظر أن هزيمة داعش قد أسيء تفسيرها من قبل الجهات الفاعلة الدولية والإقليمية على حد سواء؛ فغالبا ما كان ينظر إلى هزيمة هذه المنظمة في سوريا والعراق على أنها أحلك نتائج الربيع العربي، وكان من المفترض أن تكون كافية لبناء نظام إقليمي جديد. في الواقع لم يتم حل أي مشاكل، قامت الدول العربية بتطبيع العلاقات مع نظام الأسد في سوريا دون معالجة الأزمة السورية المستمرة؛ التطبيع الخليجي تم قبل حل المشكلة اليمنية، والأهم من ذلك أن التطبيع العربي الإسرائيلي بدأ دون مراعاة للمشكلة الفلسطينية. وهكذا أعيد إحياء الحوار الجديد في الشرق الأوسط من خلال مبادرات التطبيع وفشل في سد الفجوة بين المشاكل المستمرة وعملية التطبيع، كانت المشكلة الرئيسية هي أن التطبيع لم يصل إلى القاعدة وأهمل المشاكل الحقيقية.

بقيت منطقة الشرق الأوسط تتلكأ نفس المشاكل وبقي الصراع العربي الإسرائيلي يراوح مكانه، فلا تسوية في الأفق يعطي حق الفلسطينيين العيش في دولة ذات سيادة على حدود سنة 1967 تعيش جنبا إلى جنب مع دول إسرائيل، في الوقت الذي تعرف فيه المنطقة تزايد التنافس الجيوسياسي بين القوى الدولية الفاعلية، وتضارب في أجندات القوى الإقليمية وفي مقدمتها ايران وأدرعها بالمنطقة وتركيا وأثيوبيا.

حاليا هل يشكل الصراع الدائر حاليا بين حماس وإسرائيل مقدمة استراتيجية لوضع هياكل نظام شرق أوسطي جديد؟ وفي حالة اتساع رقعة الحرب بدخول جيوب المقاومة حزب الله في لبنان وسوريا في هذا الصراع هي يسبب هذا الموقف قلق الولايات المتحدة ويبعثر أوراقها بالمنطقة خاصة وأن قوى دولية مناوئة لها تجد الفرصة سانحة لخلط هذه الأوراق ووضع قدم لها بهذه المنطقة الحيوية؟ إلى حدود هذه الساعة لا يزال تقدير حجم الهجوم الإسرائيلي على غزة غير واضح ولازالت إسرائيل تتصارع مع تداعيات هذا الهجوم المفاجئ، وتواجه حماس تحديات كبيرة في الحفاظ على مقاومتها. ومن المرجح أن يدفع المشهد الناشئ إسرائيل إلى عقيدة أمنية جديدة وموقف أكثر راديكالية بشأن القضية الفلسطينية مما كان عليه في الماضي. ونتيجة لذلك أصبح من الصعب على نحو متزايد تشكيل الشرق الأوسط الجديد الذي يتم تأطيره في سياق التطبيع الإقليمي.

هل تؤشر أحداث ما بعد 7 أكتوبر لعام 2023 على تشكل نظام شرق أوسطي جديد؟
إن هجوم حماس غير المتوقع على إسرائيل والعمليات العسكرية الإسرائيلية المستمرة لديه القدرة على عرقلة هذا التقدم، والذي يمكن أن يؤدي إلى نهاية ما يسمى بالعصر الجديد في الشرق الأوسط. ويعتمد مستقبل هذا الوضع إلى حد كبير على تصرفات إسرائيل ومصير حماس ومدى اتساع الصراع. يشير النهج العسكري الإسرائيلي الحالي إلى عملية برية واسعة النطاق ضد غزة، تهدف إلى التدمير الكامل لحماس. وتهدف هذه الاستراتيجية إلى السيطرة على المناطق الإسرائيلية المجردة من إنسانيتها من خلال حصر المدنيين في غزة في مناطق محددة، وبالتالي إضعاف نفوذ حماس بشكل دائم.

ومن المحتمل أن يكون هناك احتلال إسرائيلي دائم وجديد لجزء من غزة في ظل الدعم الدولي لإسرائيل والذي يمنحها ميزة كبيرة في تنفيذ هذه الاستراتيجية لكن الهجوم البري الإسرائيلي يواجه تحديات عديدة. من المهم أن نتذكر الأمثلة من الحروب في أوكرانيا وسوريا، والتي تظهر كيف طورت الجماعات المسلحة غير الحكومية قدراتها في صراعات غير متكافئة وخلقت تحديات لوحدات الجيش النظامي. وبالنظر إلى قدرة حماس المتنامية وخبرتها في حرب المدن وكثافتها السكانية العالية في غزة، والدعم الشعبي الواسع لها لحماس وامتلاكها لأنفاق تحت الأرض، فمن غير المؤكد أن يؤدي الهجوم البري الإسرائيلي إلى القضاء تماما على حماس.
في خضم الوضع الحالي، لا يبدو أن هناك إنهاء وشيكا للعمليات العسكرية في قطاع غزة حيث يتوقع أن تقوم إسرائيل بضرب البنية التحتية لحركة حماس بشكل غير مسبوق، وذلك حتى يتهرب نتنياهو من مسؤوليته السياسية عن عملية طوفان الأقصى. وربما تكون الضربات الجوية الإسرائيلية المكتفة والمستمرة هي بديل الاجتياح البري خاصة في ضوء الانقسام الاسرائيلي بشأن هذا الاجتياح؛ نتيجة جغرافيا غزة التي قد تتحول إلى مستنقع للجيش الاسرائيلي وهو لا يجيد هذه النوعية من حروب المدن، ولا سيما أن شبكة أنفاق حماس في القطاع مازالت غير مكشوفة لإسرائيل، وبالتالي هي قادرة على إرباك حسابات الجانب الإسرائيلي. وقد يكون الاحتمال الأقرب هو قيام الجيش الاسرائيلي بعملية برية محدودة يحتل بموجبها شمال غزة، بعد أن تكون القوات الجوية قد مهدت ساحة المعركة هناك، ومن ثم يسعى لخلق مساحة آمنة في الشمال خالية من أسلحة حماس وتكون بمثابة منطقة عازلة بين القطاع ومستوطنات غلاف غزة.

لكن تحرك حزب الله على طول الحدود مع لبنان وسوريا يمكن أن يجبر إسرائيل على تحويل قواتها شمالا وربما توسيع نطاق الصراع على جبهات متعددة. ومن ناحيته لا يبدو أن حزب الله اللبناني يرغب في فتح جبهة حرب شمالية ضد اسرائيل، فمن غير المرجح دخوله الحرب بشكل مكثف ما لم تورطه إسرائيل بنفسها. فإذا استمرت قواعد الاشتباك بين حزب الله وإسرائيل في حدود ما كان سائدا خلال السنوات السابقة فلن يكون هناك داع بالنسبة له للتصعيد، ولكن إذا قرر حزب الله الاشتباك في الحرب الجارية، لأي سبب كان، فمن المؤكد أنه سيتسع نطاقها إلى حافة الخطر.

بالمقابل، لا تزال الأهداف وراء عملية حماس في أكتوبر غير واضحة ويبدو أن الأهداف المعلنة هي إنهاء الهجمات الإسرائيلية على غزة ووقف الهجمات على المسجد الأقصى وتأمين إطلاق سراح الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. أما إذا كانت هذه العملية المسماة طوفان الأقصى تنفذ لاعتبارات استراتيجية وليست تكتيكية فهذا يعني أن الوضع يتجاوز القضية الفلسطينية، خاصة إذا تصاعد الدعم الأمريكي لإسرائيل إلى النقطة التي يؤدي فيها إلى تدخل طرف ثالث مما قد يؤدي ذلك إلى أزمة إقليمية.

يبقى السناريو الأسوأ في الأزمة الشرق أوسطية الحالية، دخول إيران في الحرب بشكل مباشر وهو أمر غير مرجح حدوثه ولكنه يظل محتملا؛ مما يعني في هذه الحالة تدخلا عسكريا أمريكيا مباشرا يشعل المنطقة ويدفعها إلى مستويات غير مسبوقة من التصعيد. ولكن المختلف هذه المرة أن تلك الحرب ستؤثر في صيرورة وضع النظام الدولي الذي هو قيد التشكل، فانشغال الولايات المتحدة بالمنطقة قد يمنح الدب الروسي المنهك في حربه مع أوكرانيا اليد العليا في هذه الحرب وتحقيق الانتصار العسكري هناك وهو ما يعني فشل الغرب في لي دراع الروس، مما يعني انتقال النظام الدولي إلى مرحلة جديدة يسودها عدم اليقين ولربما يرجح بشكل كبير فرضية انتهاء الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة في ظل تنامي الدور الصيني والروسي وبروز قوى إقليمية فاعلية تدفع في هذا الاتجاه.

مستقبل عملية التطبيع بعد حرب 7 أكتوبر لعام 2023
قبل هذا التاريخ عرفت المنطقة الشرق الأوسطية العديد من التحولات بمباركة من الولايات المتحدة الأمريكية الفاعل الرئيسي بالمنطقة، وقد أدت هذه التحولات إلى تهميش خطوط الصدع التقليدية واستثمر في الديناميات الجيو اقتصادية باعتبارها المفتاح لإقامة نظام إقليمي جديد. ونتيجة لذلك برزت ثلاثة مسارات سياسية مختلفة بعد عام 2020: التطبيع العربي الإسرائيلي (اتفاقيات إبراهيم)؛ وتطبيع تركيا مع دول المنطقة (الإمارات وإسرائيل والسعودية ومصر)؛ والتطبيع العربي الإيراني. كل هذا ساهم في الانتقال من مناخ إقليمي فوضوي إلى فترة تطبيع أكثر حسما. لكن أحداث 7 أكتوبر والتي مازلنا لا نعرف مآلها قد تغلق الباب مؤقتا أمام شرق أوسط جديد وقد تعتمد إعادة فتحه على المسار الذي تختاره إسرائيل بشأن القضية الفلسطينية والبيئة الجيوسياسية العامة.

ولعل من بين التداعيات الناجمة عما بعد الحرب الدائرة حاليا بين حماس والدولة العبرية، تعطيل عمليات التطبيع التي كانت جارية بين عدد من الدول العربية وإسرائيل كخطوة أولى لبناء هياكل النظام الشرق الأوسطي الجديد. وقد تكون إحدى النتائج الأولى لذلك تعليق التطبيع الإسرائيلي السعودي على الرغم من جهود إدارة بايدن لتعزيز التقارب. كما يمكن أن تتأثر جهود التطبيع بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب سلبا، وقد يواجه التطبيع المتوتر بالفعل بين تركيا وإسرائيل لمزيد من التحديات.

أما في حالة ما إذا تمكنت قطر وتركيا وبشكل ضيف مصر من التفاوض على إطلاق سراح الرهائن وتهدئة الصراع فقد يتحسن الوضع، ومع ذلك فإن الوضع لا يشير إلى هذا ولا يبشر بالخير. وفي المقابل إذا فشلت هذه الجهود واشتد الاحتلال الإسرائيلي لغزة فقد تحتاج الدول الاقليمية الشرق الأوسطية وفي مقدمتها تركيا والسعودية ومصر، إذا ما استبعدنا إيران باعتبارها تدخل ضمن العقيدة العدائية لإسرائيل، إلى إعادة النظر في عملياتهما الدبلوماسية الجارية.

في كل الأحوال، فإن الشرق الأوسط الجديد الذي تجري مناقشته الآن لا يختلف اختلافا كبيرا عن الرؤية خلال الربيع العربي. وفي حين دارت المناقشات الأولية حول الديمقراطية وتغيير الوضع الراهن، ينصب التركيز الحالي على الاستقرار والحفاظ على النظام القائم. وبتأمل الخبرة التاريخية ومعطيات الحاضر والرؤية الاستشرافية لاحتمالات المستقبل يمكن القول إن تراجع القدرة والدور الأمريكي في الشرق الأوسط وبداية زوال هيمنة القوة العسكرية الاسرائيلية، التي ظلت في وجدان الأمة العربية والإسلامية بأنها لا تقهر، يعد فرصة تاريخية لتبني وابتكار نهج جديد مغاير للتخلص من الهيمنة أو وضعها في الحد الأدنى.

خاتمة :
بكل تأكيد، فإن المنطقة الشرق أوسطية ستختلف أوضاعها تماما بعد الحرب الحالية أيا كانت النتيجة. لكن الأمر المهم هو الوضع الجيوسياسي الذي سيحتله العرب في التحالفات والترتيبات الدولية التي هي قيد التشكل ومن المؤكد أن الحرب الدائرة الآن بين حماس وإسرائيل ستعجل من بناء هذه التحالفات والترتيبات وستعقدها أكثر في ظل بروز معطيات جديدة على الأرض. وبالتالي، سيكون لزاما على دول المنطقة وفي مقدمتها الدول العربية الدفاع على ما تبقى من أمنها القومي وبلورة منظور جديد للشرق الأوسط فيما يخص تفاعلاته الذاتية ومع العالم الخارجي شريطة أن تكون القضية الفلسطينية قطب الرحى في أية مفاوضات أو ترتيبات مع القوى الدولية الفاعلة في المنطقة والتي كانت ولا تزال تبدي التأييد المنقطع النظير لدولة اسرائيل التي ظلت تدعي السلام في كل مرحلة ولكنها من بعد ينكشف أن هدفها هو إضاعة مزيدا من الوقت بهدف إقبار الحقوق الفلسطينية المشروعة والمماطلة في إيجاد حل للصراع العربي الإسرائيلي.

بدون حل لهذا الصراع التاريخي، لا يكتب النجاح لأي نظام بهذه المنطقة في ظل الغبن التاريخي الذي تعرفه الحقوق العربية منذ وعد بلفور ومرورا بجميع النكبات التي عرفتها المنطقة العربية نتيجة لمخلفات هذا الصراع العقائدي.
وما لم تتحل الدول العربية بالديناميكية والجرأة الإقدام اللازمين فستجازف بمواجهة عواقب غير مأمونة ليس على مستوى القضية الفلسطينية وإنما على أمنها القومي بشكل عام، وستكون معرضة، فرادى وجماعات، لتهديدات مصرية وخسائر فادحة، ربما غير قابلة للتعويض. فهل هذه المرة سيقرأ العرب جيدا هذه الأحداث الجارية بمنطقتهم ويستغلونها لصالحهم من خلال عقد تحالفات جيو استراتيجية إقليمية ودولية تكون في مصلحة شعوبهم وأمن واستقرار منطقتهم؟ أم ستظل الشعوب العربية تردد مقولتهم:” لقد عوضنا العرب دائما في استغلال الفرص لإضاعة الفرص”؟.

(*) أستاذ باحث بمعهد الدراسات الإفريقية بجامعة محمد الخامس بالرباط..

نقلاً عن هسبريس

حول الموقع

سام برس