بقلم/ فالح بن حسين الهاجري
نجاح جديد في تاريخ الدبلوماسية القطرية، رغم كل التحديات والإشكالات والعراقيل التي واجهتها القيادة القطرية في سبيل تحقيق هدنة إنسانية في قطاع غزّة، وإيقاف آلة القتل والعدوان والحصار والقتل الجماعي، إذ أتى إعلان دولة قطر نجاح جهود الوساطة المشتركة مع جمهورية مصر العربية الشقيقة، وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية، بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية في غزّة، وهي هدنة إنسانية تستمر أربعة أيام قابلة للتمديد. وليس مستغربا أن تُكلل تلك الجهود القطرية، بالنجاح المبهر لكل القيادات والشعوب في العالم، طالما شارك في مفاوضات التهدئة حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى حفظه الله.

لم تأتِ تلك الجهود الدبلوماسية الجبارة، بهذه النتائج العظيمة، لولا أيام وأسابيع طويلة من السفر والتواصل، والسهر، والضغوط التي بذلها سمو أمير البلاد المفدى، والمسؤولون في القيادة في دولة قطر لإتمام هدنة، تصب في مصلحة المدنيين من الجرحى والجوعى والعطشى والمشردين والعالقين والمحاصرين في مناطق قطاع غزّة في المقام الأول.

فالمفاوضات المعقَّدة، والاتصالات المكثفة مع زعماء وقادة غربيين وعرب وقادة إقليميين، وتواصل مباشر وغير مباشر مع الأطراف المؤثرة والمهتمة في هذه الحرب، وتنسيق مستمر مع الأشقاء المصريين وقيادات عربية نشطة، ومشاركة سمو أمير البلاد المفدى في مؤتمر السلام في مصر، والقمة العربية – الإسلامية الطارئة في الرياض، وسياسة الحرص والتكتم على مجريات الاتفاق ومناقشاته وحيثياته، جعلت دولة قطر تصل لأهدافها المرحلية في إتمام الهدنة، وتتوصل للبنود المتاحة إنسانيا وأمنيا.
وهو ما يجعل الواجب أن نتوجه بجزيل الشكر والامتنان باسمي، وباسم أبناء شعبنا، والأمة العربية والإسلامية وأبناء الإنسانية جمعاء لحضرة صاحب السمو أمير البلاد المفدى، ومعالي رئيس الوزراء ووزير الخارجية الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني وكل المسؤولين والدبلوماسيين الذين تعبوا حتى أنجزوا الوعد الإنساني والدبلوماسي العظيم في غزّة.

نجاح دبلوماسي
لم يُخطئ معهد Chr. Michelsen Institute الخاص ببحوث التنمية ، عندما اعتبر أن دولة قطر تقوم بدور دبلوماسي مهم من خلال تبنيها لسياسات إنسانية، توطد من دورها الفاعل في المجتمع الإقليمي والدولي ، وعبر سياسات دبلوماسية تنموية وإنسانية وخيرية وبمنطق الحياد في حل النزاعات ، ودعم السلام العالمي ، أنتجت الدوحة رؤية سياسية مؤثرة، لاقت قبولا واحتراما في هذه الحرب المدمرة في غزة.
حيث وسّعت دولة قطر في اتصالاتها الدبلوماسية لاحتواء التصعيد الإسرائيلي الخطير في قطاع غزّة، والذي أدى لتدمير المستشفيات، والمدارس والجامعات، والمؤسسات الإغاثية، ومراكز الإيواء، ومراكز الأمم المتحدة «الأونروا»، فهي من اللحظة الأولى شكلت مجموعات عمل لتقديم الرعاية الطبية ومشروعات الإغاثة العاجلة، وتفعيل علاقاتها الإقليمية والدولية؛ لإطلاق سراح الأسرى والمعتقلين من الجانبين، وأعطت أولوية لتقديم المساعدات الإنسانية، مركزة في مساعيها الدبلوماسية على خفض التصعيد وحقن الدماء وحماية المدنيين، مثمنة بهذا الصدد الجهود التي بذلتها جمهورية مصر العربية الشقيقة، والولايات المتحدة الأمريكية في دعم جهود الوساطة وصولا إلى هذا الاتفاق. واستمر شعارها الدبلوماسي: نبدأ بهدنة إنسانية، ونتولى مفاوضات عادلة، ونسعى لاتفاق مستدام يوقف الحرب، يفضي لمحادثات سلام شاملة، حسب ما أدلى به رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية القطري معالي الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني.

وفي هذا السياق، ثمن الرئيس الأمريكي بايدن اتفاق الهدنة الإنسانية في غزّة، وشكر كلا من أمير البلاد المفدى الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على «قيادتهما الحاسمة وشراكتهما في التوصل إلى هذا الاتفاق».

فإستراتيجية القوة الناعمة لدولة قطر، وعلاقاتها الدولية الإيجابية مع مختلف القوى الدولية، ومكانتها الخاصة في الشرق الأوسط من حيث الطاقة والقوة الاقتصادية والعمل الإنساني والتنموي، جعل رؤيتها التفاوضية، تلقى آذانا صاغية لوقف نزيف الدماء في غزّة أمام الضغط الشعبي العالمي، والرسمي الدولي، والأممي على الاحتلال الإسرائيلي؛ لإنهاء هذا العقاب الجماعي والحصار القاتل بحق الشعب الفلسطيني في غزّة.

أولويات الوساطة ورهاناتها
يشمل الاتفاق وقف إطلاق النار من الطرفين، ووقف كل الأعمال العسكرية، وسيطلق سراح 50 من الأسرى من النساء المدنيات والأطفال الإسرائيليين في قطاع غزة، مقابل الإفراج عن 150 من النساء والأطفال الفلسطينيين المحتجزين في السجون الإسرائيلية، ووقف حركة الطيران في جنوب غزة على مدار أيام الهدنة وفي الشمال لمدة 6 ساعات يوميا، وإدخال مئات الشاحنات الخاصة بالمساعدات الطبية والإغاثية والإنسانية والوقود إلى مناطق غزة بلا استثناء. والمؤمل أن يكتمل هذا المشهد الدبلوماسي في زيادة أعداد المفرج عنهم في مراحل لاحقة من تطبيق الاتفاق، وتمديد الهدنة لتكون دائمة وتصل لاتفاق سلام في غزة يحفظ لأهل غزة وفلسطين بيوتهم وأمنهم وأراضيهم.

تدخلت دولة قطر بكل ما لديها من قوة إعلامية واقتصادية ودبلوماسية، للتخفيف من معاناة الشعب الفلسطيني وأهل غزة، وإنجاز وعد وقف نزيف الدم الفلسطيني، ولم ولن تكون رهانات هذا الجهد الدبلوماسي القطري – المصري – الأمريكي سهلة، وإنما ما يشهده الوضع في فلسطين من تصعيد مخيف يهدد وجود الشعب الفلسطيني في أرضه، والإقليم ككل، يجعل تلك الوساطة تتعقد أكثر، وما تحقق إنما هي هدنة أيام، ولا نعلم ما تخبئه الأيام المقبلة من مفاجآت، وهو ما يجعل القيادة السياسية وعلى رأسها حضرة صاحب السمو يستمرون في تواصلهم خلال الهدنة، لإنهاء العدوان الغاشم، ووقف الإبادة الجماعية بشكل كامل.

قطر لديها قوة ناعمة، وتاريخها المشرّف في التوسط وتحقيق السلام بين المتخاصمين، مهما اشتدت دموية أو طبيعة الحرب والصراع، يجعلها تتموضع في لعب أدوار محورية، ووساطة غير عادية لتكون فاعلا أكبر في تحقيق السلام والأمن العالمي، ولديها سجل حافل بالنجاحات في أكثر القضايا الأمنية والعسكرية تعقيدا وطولا، ابتداء من إفريقيا «تشاد وجيبوتي وإرتيريا وليبيا والصومال وكينيا»، وفي البلاد العربية «السودان ولبنان وفلسطين»، وفي الوساطة القطرية في الأزمة الأفغانية التي تعتبر من أكثر الأزمات العالمية خطورة في القرن الحادي والعشرين، والتي انتهت بتوقيع الاتفاق التاريخي بين الولايات المتحدة الأمريكية وطالبان لإحلال السلام، وإنهاء حرب استمرت عقدين كاملين من الزمن.

إن العلاقات القطرية مع مختلف الأطراف والفاعلين الإقليميين والدوليين، يكسبها الرصيد المعنوي والمادي، ويجعلها قناة دبلوماسية قوية وموثوقة لدى الجميع بهدف تحقيق التنمية، وحل النزاعات، وتعزيز السلام في العالم.

@falehalhajeri
* رئيس التحرير
نقلاً عن العرب القطرية

حول الموقع

سام برس