بقلم/ احمد الشاوش
تظل فترة التسعينات في العاصمة صنعاء من اجمل وانصع سنوات العمر المشرقة والزاخرة ببحار الثقافة وروافد المعرفة وجداول الفكر الانساني وتعدد التيارات السياسية.

حيث كانت درة المدائن صنعاء ، تُشكل واحة للثقافة والمعرفة والفكر الانساني الخلاق ، بإرصفتها الجذابة وكتبها ومجلداتها الفاخرة وألوانها الجميلة وعناوينها الشهيرة وكتبها العصرية ومخطوطاتها النادرة والقديمة .

لقد شكلت أرصفة وشوارع ومكتبات واكشاك صنعاء بالنسبة للقارئ ، الثروة الحقيقية ، والقوت الضروري والمخزون المعرفي والمستقبل المشرق للمثقفين والمفكرين والقراء والاكاديميين والدارسين والباحثين وكافة المشارب السياسية والدينية من الناصريين والاشتراكيين والبعثيين والاخوان المسلمين الذين كان يبحثون عن الكتاب واسراره ومكنوناته لصقل الشخصية وأكتساب لغة الحوار والمناقشة وادارة الخلاف والاختلاف مع الاخر بإعتبار الكتاب هو الحجة ، والمعرفة هي الطاقة الفعالة تجاه الآخر في سوق التنافس.

يظل المشهد الثقافي الجذاب في تلك الفترة الذهبية يُشكل لوحة بديعة الالوان بما تحوية تلك الشوارع والارصفة من نفائس الكتب والخطوط والمعلومات الغزيرة ودليل على الثراء والتلاقح الثقافي , لاسيما بعد الوحدة اليمنية التي أثرت الحياة الثقافية والفكرية بآلاف الكتب القيمة المتعددة المشارب والافكار والتوجهات من صنعاء وتعز وعدن والحديدة والمكلا وغيرها ، بعد ان أصبحت صنعاء قبلة لذلك السيل الجرار من الاصدارات المتنوعة والحراك الثقافي.

كان الملحق الثقافي السعودي والملحق الثقافي السوداني والملحق الثقافي الاردني وبعض السوريين ينزلون الى تلك الارصفة والبسطات والشوارع لشراء الكتب والمخطوطات النادرة ويستغلون الفرصة ويجزلون العطاء للبائعين من أجل الاحتفاظ لهم بالكتب القيمة التي كان الكثير من ابناء صنعاء الورثة يبيعونها للبسطات دون أن يعرف البعض قيمتها بعد ان بدأ عصر القنوات الفضائية والمسلسلات وأصبحت تشكل لدى البعض عبئ في البيوت الصغيرة وتُشحن الى الخارج في ظل صمت الجهات الامنية بحسب مانقل لي بعض المثقفين وغيرهم من المقربين!!؟.

لقد انجبت اليمن الكثير من الادباء والشعراء والمثقفين والفنانين والمفكرين الذين أرتبطوا بعلاقة حميمة مع الكتاب بإعتباره الصديق الوفي وتزودوا بالمعرفة ، وكان لكل من أولئك النجوم والرواد مكتبه في منزله ينهل منها مايروي احلامه وتطلعاته وخياراته واولوياته وضمأه، ومن لم يجد ذهب الى دار الكتب أو استعار من صديق له.

كان للكتاب قدسية خاصة وقيمة كبيرة لدى المثقفين اليمنيين من كافة المشارب الثقافية والفكرية والدينية والسياسية والباحثين والاكاديميين ، وكانت جلسات المقيل تبدأ بقراءة بعض الكتب والمناقشة والحوارات والتعقيب والتصحيح والنقد بحيث من كان متواجداً وان لم يكن مثقفاً أو على قدر من الثقافة يستفيد من تلك الهامات بالمجالسة والاستماع الى عمالقة تلك المرحلة.

كانت لنا أسواق وارصفة وبسطات شعبية لبيع الكتب في صنعاء بجوار معرض الشطفة والرادع ورصيف شارع علي عبدالمغني امام دبابة مارد الثورة الذي أختفى فجأة وتحت مبنى المواصلات وبريد التحرير وشارع المطاعم والمتحف وشارع جمال وبجوار مركز الدراسات بشارع الزبيري وباب اليمن والحصبة وبعض دكاكين سوق الكتب في صنعاء القديمة لاكتساب الرزق وتعميم المعرفة والقضاء على الجهل.. أولئك النجوم الذين يفترشون الارض والارصفة بين الشمس والرياح والمطر يقدمون خدمة جليلة للوطن والشعب رغم ملاحقات ومطاردات ورشاوى البلدية.

كانت لنا معارض دولية للكتاب تقام سنوياً في جامعة صنعاء وقبلها في منطقة شملان وكذلك في معرض ابولو ، جوار منطقة عطان وكانت تُعرض في معرض الكتاب مالا يقل عن 300 ألف كتاب ومشاركة كبيرة وكان الزوار بالالاف ، من المثقفين والسياسيين والباحثين والطلبة والطالبات والموظفين وكان كثير من الموظفين اليمنيين قبل ان يتوجه الى العمل يمر على معرض الكتاب والاطلاع على الجديد وحجز مايريد من المطبوعات بتقديم عربون قبل ان تنفد الكتب المهمة أو يخصص يوم لزيارة المعرض .

كان يوجد لدينا الكثير من الاكشاك التي انشأتها مؤسسة الثورة للصحافة والكثير من المكاتب الشهيرة بصنعاء تبيع الكتب على غرار الاسواق الشعبية لبيع الكتب في الدول العربية مثل شارع المتنبي على الضفة الشرقية لنهر دجلة والذي يُعد حتى الان من أشهر الشوارع التي تبيع الكتب القديمة في العالم العربي ، والمغرب التي تحتوي على 200 سوق أشهرها سوق "الليدو" بمدينة فاس و"باب دكالة" بمراكش ، وسوق الدباغين في تونس ، وأسواق دمشق وبسطاتها لبيع الكتب النادرة .. تلك الارصفة والشوارع التي كانت ملتقى للمثقفين واصحاب الفكر والباحثين من كل الاتجاهات.

حتى الصحف والمجلات المحلية والعربية والدولية كانت تتدفق على اليمن كالسيل الجارف ، وفي الطليعة مجلة العربي الكويتية ، ومجلة آخر ساعة والمصور وروز اليوسف وأكتوبر المصرية والاهرام ومجلة المجلة واليمامة السعودية والحوادث اللبنانية والوطن العربي ، والشاهد الليبية وهنا لندن والمشاهد والشبكة والموعد وطبيبك والصقر الرياضية ومجلة سيدتي والدوحة والكويت وكل العرب واضواء اليمن والحسام ومعين والثقافية والاكليل ومجلة ماجد واليوم السابع والدستور وشيحان والصياد والحياة والشرق الاوسط وعكاظ وبعض منهن من فترة السبعينات والثمانينات كانت تعرض على الرصيف.

كان ميدان التحرير وأرصفته وبسطاته منارة لبحث المثقفين عن غاياتهم من وقت العصر ، والبعض من بعد التخزينة ينزل دورة في المساء للبحث عن الكتاب المناسب والكتب النادرة وكان من المثقفين والموثقين الاستاذ والذاكرة الوطنية "عبدالله النخلاني" الذي له الفضل في لفت نظري الى هذا الموضوع الهام والاتصال ببعض ممن كان يعمل في بيع الكتب لاخذ المعلومة الصحيحة.

وكان ممن يتردد على تلك الارصفة بقصد الشراء الاستاذ محمد الهمداني والاستاذ محمد عناش والاستاذ علي ابوغانم ، والبعض كان يأتي من أبناء مشائخ قبيلة همدان ومدينة حرض وتعز وعدن والمكلا والحديدة وعمران ، كما حصلت في التسعينات فترة انتعاش ثقافي وحركة بلاحدود في الميل الى الاطلاع والحصول على الكتب بكافة اشكالها والوانها ، وكانت تُشحن الكتب من صنعاء الى عدن والمكلا وعكس ذلك تُشحن كُتب أخرى من عدن والمكلا الى صنعاء في تلاقح ثقافي وفكري عجيب فاق كل التصورات.

كان المثقف والبائع محمد قايد العديني يمول البسطات بانواع الكتب .. وكان ومازال المثقف طه الحداد يعمل في بيع وتمويل وتوزيع الكتب بخبرة تصل الى 32 عاماً حيث كان يطلق عليه الناس "ملك الكتب" لنشره للثقافة في العديد من المدن مثل صنعاء وتعز والمكلا وعدن ومازال يعمل حتى الان بجوار معرض الشطفة بصنعاء والمتحف الوطني وجامعة صنعاء ولديه مكتبه في محافظة إب .

كما امتهن أخوانه نفس الحرفة ، واحمد نعمان الحداد وعبدالغني وجمال ، وابن اخته عمر عبدالله عمر الجعفري وولده فيصل ، وامين العواضي ، ومحمد يحي ، وفاروق مارش ، واولاد الحبيشي ، وكان ممن يبيع الكتب سابقاً محمد قائد حسن ، وفيصل الشهاري ، وفيصل حسن ، وعلي حسن ، وعلي أمين ، وحمود ويحي وغالب الشهالي ومحمد واحمد مهيوب مارش وعبده مهيوب مارش ..

ومن أولئك من أستمر في مزاولة المهنة ومنهم من توفاه الله وآخرين شدو الرحيل للعمل في السعودية.. نسرد هذه الاسماء المتواضعة واللامعة من باب الانصاف والتوثيق للتاريخ .

وقد أشتهرت مكتبه الحكمة لبيت الوزير ومكتبة الارشاد ومكتبة دار الكلمة للمقحفي ومكتبة الانسي ومكتبة خالد ابن الوليد ومكتبة ابا ذرالغفاري والكثير من المكتبات اليمنية بتقديم خدمة للقارئ والباحث ..

ورغم ذلك اثبتت الدراسات ان المواطن اليمني والعربي يقرأ بمعدل ست دقائق سنوياً بينما الاوروبي بمعدل 200 ساعة سنوياً وفقاً لتقرير التنمية البشرية عام 2011م الصادر عن مؤسسة الفكر العربي، فما بالنا باليوم بعد ان سادت الفوضى وأكتسح الفقر والجوع!.

أخيراً .. اليوم تغلقت على اليمنيين ابواب السموات والارض وأصبحنا نعيش في عزلة محلية واقليمة ودولية وأصبحت مطاراتنا وموانئنا ونقاطنا وطرقنا مُغلقة على أبو يمن مع سبق الاصرار والترصد بينما مفتوحة ليل نهار لسفها الامم المتحدة وسفراء الدول العشر ومساعي الوساطة وتجار الحروب وأصحاب المواعيد العرقوبية لابقاء الوضع على ماهو عليه.. مجزأ .. مشطر.. مضطرب .. مع سبق الاصرار والترصد ووفقاً لسياسة القوة والتجهيل من كل الاطراف التي أدمنت العنف .

لم نعد نرى مجلة العربي واخر ساعة وروز اليوسف ومجلة المجلة وناشيونال جيوغرافيك والاهرام والشرق الاوسط والمستقبل العربي وطبيبك والكتب العصرية حتى الصحف والمجلات اليمنية أصبحت في خبر كان بعد ان ساد عصر الملازم وضاعت الصعبة على العمدا.

وعلى قولة الفنان اليمني الكبير فؤاد الكبسي "قد الباب سبعين باب وسبعين خالفة" مازد درينا من المسؤول في أغتيال العقل وتجفيف الوعي وتعطيل الفكر وتصحير الثقافة ، ولم نعد نرى شيء جديد في المشهد الثقافي برمته سوى الاحتضار ، فهل من مخرج ؟.. أملنا كبير؟.

shawish22@gmail.com

حول الموقع

سام برس