عبدالله حمود الفقيه
للتصوف في تاريخ الأدب العربي - وغير العربي - مكانة جليلة لا تخفى على أحد، وترتبط كلمة «التصوف» أساساً بالحركة الدينية المعروفة بأفكارها ورؤاها وأذكارها الدينية المرتبطة بفلسفة عميقة تجدها لدى رموزها وأعلامها ورجالاتها .. كابن عربي والجنيد والحلاج وغيرهم , وظهر إثرها شعراء وُصِفتْ قصائدهم وإبداعاتهم الشعرية والأدبية بأنها ذات أبعاد صوفية غير أن الحديث عن التصوف عموماً بما هو ظاهرة إنسانية عامة سيخرجها من إطارها الديني إلى إطارها الرؤيوي الذي يمثله العديد من الأدباء والشعراء العرب وغير العرب, وقد أفاد الكثير من شعراء العصر الحديث من هذه الظاهرة الإنسانية العامة في الشرق والغرب، فتمثلوا الرؤية الصوفية بمفهومها الأوسع ووظفوها في أشعارهم وقصائدهم بما يخدم الأبعاد الجمالية والدلالية في النصوص، والسؤال الذي يَعِنُّ لنا ونحن نتحدث عن الرؤية الصوفية في الأعمال الإبداعية هو: هل يكفي لكي نقول بأن هذا الشاعر أو ذاك ذو رؤية صوفية, وجودُ مصطلحات صوفية في نصوصه؟!!
الحقيقة أن التصوف الشعري «الأدبي» أكبر من وجود مصطلحات صوفية قد يضعها الشاعر في نصه وضعاً فاتراً مائتاً لا يؤدي قيمة تخدم النص، التصوف سمو بلغة الشعر في فضاءات الإبداع والتخييل، وارتقاء بها في معراج الشعرية سماوات عُلا وهو بمفهوم عام استبطان منظم لتجربة روحية ووجهة نظر خاصة تحدد موقف الإنسان من الوجود ومن نفسه ومن العالم (1) وعلى ذلك فدراسة التصوف في شعر شاعر ما تحتاج إلى الكشف عن شقين أساسيين في التجربة الصوفية الشعرية.. الشق الأول يتمثل في البحث عن ملامح الرؤية الصوفية في التجربة والشق الثاني يتوجه إلى دراسة طريقة الشاعر في إنتاج الدلالة وكيف أفاد من هذه الرؤية. وستحاول هذه الأسطر توضيح الشق الأول في قراءة أولى في ديوان الشاعر/عبدالودود سيف
والملاحظ أن تجربة الشاعر المبدع عبدالودود سيف في ديوان «زفاف الحجارة للبحر» تجربة محلقة في الكون الإبداعي تشف عن ثقافة واسعة عميقة الأغوار، وقدرة فذة على الخلق والإبداع وتعامل واعٍ وراقٍ مع اللغة ما يجعل القارئ في تعامله مع هذه التجربة الرائدة بحاجة إلى التأمل العميق والغوص إلى باطنها، والتسلح بكثير معرفة وسعة اطلاع، وسأجازف في هذه الأسطر التي لا تغني عن الحاجة إلى إرجاع البصر كرتين في الديوان شيئاً ولكنها محاولة تجديف في هذا البحر الزخار لإبراز بعض ملامح ما أزعم أنها رؤية صوفية أوجزها في النقاط الآتية:
1ـ التوحُّد : ويمكن ملاحظة ذلك بداية من العنوان «زفاف الحجارة للبحر» ففي الزفاف التقاء بين كائنين كانا منفردين منشطرين فأصبحا زوجاً واحداً، كما نجد لغوياً استخدام حرف الجر «اللام» الذي من دلالته - وهي الأساس - الإلصاق.
وبين دفتي الديوان الكثير من الأمثلة لذلك منها على سبيل التمثيل لا الحصر ذوبان الذات مع نفسها ويبرز ذلك في «ياء المتكلم» وضمير «الأنا»/هذي خطاي تعود بي نحوي وتجلسني إليّ/وأنا أعود إليّ/وأنا أسير إليّ ..الخ.
كما نجد اتحاد الذات مع الكائنات/أنا انقسام محارة/أنا أعمى أستدل علي من لهبي/لقد آن زفاف قطافي/أنا الآن قوس قزح .. أسماء للعوسج، وطلاء للبنفسج.. الخ.
وتارة تتحد الذات بذوات أخرى كما نجد في تمثل شخص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم , والإيحاء به عن طريق التناص مع الهجرة إلى المدينة في قوله (وأستحثهن «أي النساء» أن يشققن صدورهن بصنوج الغناء، ويرتقبن مطلع بدري) وتارة أخرى تتماهى الذات المتكلمة مع الذات الإلهية (فلأطلق العنان للنرجس كيما يتفتح ويخاطبني بأسمائي/ أومأت للبحر أن يتبعني«...» وصعدتُ في جنح الغيم أفتتح عرش أبوابه كاملة)..كما نجد ذلك في الخلق الذي تتمثله الذات في الديوان للكائنات وللكون ليشير ذلك من جانب آخر إلى مصطلح الإرادة لدى الصوفية، فالإرادة عند الصوفي جوهر الألوهية، وجوهر الإنسان وجوهر الوجود، «...» والإرادة التي يعنيها ليست إنسانية بل إرادة إلهية متحدة مع ذاته.«2».
2ـ التناص مع قصص المعراج التي أهمها ما جاء في «كيمياء السعادة» لابن عربي في الفتوحات المكية, ما نلحظه على سبيل التمثيل في فصل مطالع البحر نص (أسماء للموج، ألقاب للزَّبد) المقطع الثاني ص29, كما نلحظه في ذات القصيدة في قوله «أدخل بلسماً وأخرج طلسماً، وأمشي بينهما كأسنان المشط، أغنية تهذي بين الصدى والصوت، تبحث عن سماء ثامنة تنقش في زرقتها اسمها الذي يحملها أو يكلمها أو يحملها ذنوب مملكة طروادة..) فثمة إحالة تناصية إلى كيمياء السعادة لابن عربي الذي جعل فيها المؤمن ـ دون الفيلسوف - يتجاوز السموات السبع, التي صعداها معاً, بمفرده إلى السماء ذات البروج. ثم إلى «عالم الهيمان» وفي كل ذلك تنكشف له أسرار عديدة عن الكون والوجود والخلق .(3)
3ـ تمجيد القلب والقلب عند المتصوفة الأساس في المعرفة "حتى جعله بعضهم عرشاً للرحمن" (4) نلاحظ ذلك في مثل قوله: "وبدأت تصعد فيها ثملاً إلى أول عرش القلب.." ص29 "وليكن أول ما يبدأ به القلب، آخر ماأحد به فضاء قصيدتي » ص32.
4ـالقلقوالتطلع إلى العالم المجهول وهي سمة بارزة في الديوان.. إذ تجده دائماً في مرحلة القلق والشك «بين بين» كما تجد التطلع الدائم للمجهول كما في طلب السماء الثامنة في المثال السابق إضافة إلى ترديد عبارة "ولأبلغن ما لا أرى".
5ـ الصراع بين الخير الذي تمثله «النفس» والامتلاء، والشر المتمثل في الخارج والهباء أو بصورة أخرى بين المنشود «في النفس» والموجود في الواقع "أدخل إلى نفسي كأنني لا أرى شيئاً وأخرج منها فلا أرى إلا الهباء وإلا الهباء" ص67.
6ـ التمرد والثورة على الأشكال الموجودة في المحيط ما يحدث صدمة للناس يقول جلال الدين الرومي "إن الهواء الذي أنفخه في هذا الناي نار وليس هواء وكل من ليس له هذه النار فليمت (5) هذه الثورة وهذا التمرد واضحان في الديوان ابتداءً من الشكل القائم على تقسيم الكتاب / الديوان إلى فصول ثم إلى أجزاء, كل فصل على هيئة سفر لا ديوان, مروراً بكتابة النصوص الشعرية كما نلاحظ في الانزياحات ـ لغوية وإحالية - عن الأصول المتعارف عليها.
7ـ استخدام «اللغة الباطنية» التي تحتاج إلى إعمال الفكر والغوص إلى الأعماق، لاستجلاء بعض مدلولاتها ذلك أن اللغة الشعرية على تعبير أدونيس ـ وسيلة استبطان واكتشاف ومن غاياتها الأولى أن تثير وتحرك وتهز الأعماق وتفتح أبواب الاستبطان إنها تيار تحولات يغمزنا بإيحائه وإيقاعه وبعده هذه اللغة فعل، نواة، حركة خزان، طاقات والكلمة فيها من حروفها وموسيقاها لها وراء حروفها ومقاطعها دم خاص ودورة حياتية خاصة، الأمر الذي سنجده لدى لغة الديوان «زفاف الحجارة للبحر» بارزاً وجلياً فلغته عميقة الأبعاد والدلالات سيميائية الإيحاء، فضاء واسع من الدلالات والإحالات.
8ـ كما نلاحظ ملامح للرؤية الصوفية في الديوان في العشق الخبيء في الأعماق والفرق بين الظاهر والباطن كما في قوله "قلت، كنت أغض الطرف، وانتهر النساء من الفضول، ولكنني إذا أخبت في طوالع سريرتي، قعدت أستملح ماء أصواتهن، واستحثهن أن يشققن صدورهن بصنوج الغناء ويرتقبن مطلع بدري" ص87 وشق الصدور في الغناء كذلك ملمح للنشوة الصوفية، كما نلحظ ملامح صوفية في قوله: "كيف تقول إذا شققت جدولاً أقول هذا المقلاع وإذا حومت في فراشة النرجس أقول: أشهد أنني أقيم صلات الرحم وإذا أتم نعمته عليك وأجلسك في حافة الينبوع؟ قلت: أهلل وأقول أنتصب في الساق المعراج"... الخ ص87, فهنا توظيف للتدرج في الارتقاء في درجات التصوف، كما نلاحظ الإشارة إلى "الذات الإلهية" بضمير الغياب دون أن يكون مشاراً إليه مسبقاً ..وكذلك سنجد ما يشير إلى «كرامات» الصوفية أو ما عبر عنه جلال الدين الرومي في نصه السابق، ومن الأمثلة البسيطة على ذلك .."ورأيت الموج يستف الماء من السطح إلى القاع، ويخرج من بين يدي، مزيناً بقبة من الصواعق" ص86, ناهيك عن المصطلحات الكثيرة المنتشرة في الديوان بشكل كبير ولافت.
ونظراً لضيق المساحة المتاحة للدراسة اكتفي بما سبق كأمثلة شوارد وملامح أشتات لتصوف شعري موظف توظيفاً دلالياً مكثفاً ولربما نجد من يتعمق الظاهرة في تجربة الشاعر في الديوان بالدراسة والفحص لكافة المستويات الدلالية والجمالية.

حول الموقع

سام برس