بقلم/ حنان المنصف
في نوفمبر من سنة 2015، أسقطت القوات التركية المسلحة المقاتلة الروسية التي اخترقت الأجواء التركية، لتأتي على اثر ذلك القطيعة بين البلدين و لتعلن روسيا عن جملة من العقوبات و التهديدات و الاتهامات منها دعم أردوغان للتنظيمات الإرهابية في سوريا.

في أوائل يونيو من هذه السنة، سمحت وزارة الدفاع الروسية لطائرات استطلاع تركية بالطيران في الأجواء الروسية في إطار اتفاقية “الأجواء المفتوحة”، تبعت ذلك رسائل أردوغان إلى نظيره الروسي، تعبيرا عن الأسف لإسقاط الطائرة الروسية.

هذه الخطوات الايجابية المتبادلة، أكدت حاجة كل طرف إلى الآخر، بعيدا عن منطق الإيديولوجيات و البطولات و الزعامات..فضرورات المصالح أباحت محظورات الاعتبارات الشخصية.
* * *
ورثت العلاقات الروسية التركية تاريخا من المواجهات و من التنافس على النفوذ حيث مازالت إلى الآن تتشابك مصالحهما في البحر الأسود و آسيا الوسطى و القوقاز و الشرق الأوسط، و هو ما جعلهما مع بداية القرن الحالي يعيدان النظر في طبيعة إرث علاقتهما ليجدا صيغة للتعاون باعتبارهما دولتين متجاورتين تطمحان لتجاوز تاريخهما المعقد في سبيل إيجاد استفادة اقتصادية متبادلة.

بكثير من البراغماتية ، و بعد قطيعة استمرت ثمانية أشهر، التقى “القيصر” و “السلطان” في التاسع من الشهر الحالي في سان بطرسبرغ. أثارت هذه الزيارة الكثير من التساؤلات نتيجة لطبيعة الأجواء و الدلالات التي رافقتها، فهي الزيارة الأولى لأردوغان إلى الخارج بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة و مع ما تعرفه العلاقات التركية الغربية من توتر لا تُخفي ضبابية جوانبه وضوحه.

صحيح أن محاولة الانقلاب ليست المحرك الأساسي لعودة العلاقات الروسية-التركية، و هو ما يؤكده سياق الأحداث، فالروابط الاقتصادية التي تجمع بين البلدين تجعل من غير الممكن استمرار حالة التأزم. فتركيا تستورد سنويا 16 مليار متر مكعب من الغاز الروسي ، إذ أن روسيا ثاني أكبر شريك تجاري لتركيا. كما تستقبل الأخيرة خمسة ملايين سائح روسي سنويا. و يصل التبادل التجاري بين البلدين إلى 33 مليار دولار سنويا، و يرجح أن يرتفع إلى حوالي مئة مليار دولار في حدود سنة 2023. و هكذا، فإن العامل الاقتصادي ساهم بشكل كبير في عودة العلاقات الروسية- التركية إلى ما كانت عليه قبل إسقاط الطائرة، خاصة و أن روسيا تُعوّل كثيرا على مشروع خط أنابيب “تيركش ستريم” الذي يتجاوز أوكرانيا عبر تركيا و يزيد من سيطرة شركة غاز بروم على إمدادات الطاقة في السوق الأوروبية.

غير أن ذلك لا ينفي أن المحاولة الانقلابية جعلت معادلة المصالح بين البلدين تنبني على حسابات جديدة أفرزتها المتغيرات الآخذة في التبلور؛ من ذلك تدهور علاقات تركيا مع حلفائها، و تفاقم الشعور التركي بأن هؤلاء الحلفاء غير موثوقين و لا يمكن الاعتماد عليهم في أوقات المحن و الأزمات (حادثة إسقاط الطائرة و محاولة الانقلاب العسكري ) و أنهم يتجاهلون المصالح التركية مثلما هو الحال فيم يتعلق بالملف الكردي و بالدعم الأمريكي لحزب الاتحاد الديمقراطي الذي يعتبر امتدادا لحزب العمال الكردستاني و تأثير ذلك على الوحدة الترابية التركية و بالتالي على الأمن القومي التركي.

من المؤكد أن أردوغان أراد توجيه رسالة غاضبة للغرب مثبتا أنه مازال قادرا على التوجه شمالا إلى روسيا و على التحرك خارج دائرة تحالفاته مراهنا على قوة تركيا الجيوسياسية التي لا يمكن تجاوزها، إلا أنه يظل من غير الممكن الجزم إن كان هذا التقارب بين روسيا و تركيا تكتيكيا أم استراتيجيا. فهل تتجه تركيا كليا نحو الشمال قاطعة مع تحالفاتها مع الغرب خاصة فيم يتعلق بقضايا الإقليم و تحديدا المسألة السورية؟ أم أن هذا التقارب هو لقاء مصالح اقتصادية يترك جانبا التسويات السياسية ؟

إن قررت تركيا فعلا و فعليا تغيير تحالفاتها، فإن ذلك ينطوي على مخاطر جمة، بدءا بالإقرار بفشل المشروع الأردوغاني و بطموحات التوسع و الهيمنة التي كبدت تركيا خسائر مادية و هشاشة داخلية، مرورا بالأدوات و الأوراق التي اعتمدتها تركيا للانخراط في “اللعبة السورية” و نقصد هنا الارتباطات المعقدة و المتشابكة و التي تأخذ أشكالا متعددة و مختلفة بين تركيا و الجماعات الإرهابية في سوريا حيث أن ثمن فك أو التنصل من هذه الارتباطات سيكون باهظا دون شك و ما عملية غازي عنتاب الأخيرة إلا بادرة من البوادر. دون أن نغفل عن ردود الفعل الغربية، حيث أن الجبهة الداخلية التركية مازالت تعاني من “جروح ” الانقلاب الأخير و من تداعياته و حيث أن إمكانية حدوث انقلاب آخر يزيل السلطان من عرشه مازالت واردة إذا ما أراد الغرب ذلك.

كما أن تركيا لم تعد قادرة على المراهنة على تحالفها مع الغرب الذي خذلها في أوقات سابقة، و الذي تشير جملة من المعطيات أنه مستمر في خذلانها، فمثلا زيارة جون بايدن يوم الأربعاء إلى تركيا ، لم تأتي بتطمينات جدية ما عدى “مستلزمات” الخطاب الدبلوماسي (فيم يتعلق بإدانة الانقلاب العسكري و التأكيد على الوقوف مع الشعب التركي …)، فنائب الرئيس الأمريكي ألمح و صرح أن تسليم فتح الله غولن “ليس بيده و لا بيد أوباما”. و بذلك يبدو أن التوتر مازال سيخيم على العلاقات الأمريكية التركية التي لا يعرف بعد كيف ستسير مع الإدارة المقبلة و لا على ماذا سترسو خاصة إذا اتجهت “الإدارة الفائزة ” في الانتخابات إلى تغيير توجهات السياسة الخارجية و إلى تغيير الاستراتيجيات في الشرق الأوسط. و هو ما ليس مستحيلا على كل حال، و ما يضع لاعبي المنطقة – ومنهم تركيا- في حالة ارتباك.
* * *
تتحدث تسريبات و أخبار عن لقاءات سرية في طهران و الجزائر تجمع وفودا تركية و سورية، تمهيدا لعودة العلاقات بين البلدين. و إن كنا لا نعرف تفاصيل هذه اللقاءات فإن الوقائع و الأحداث الجارية تحيلنا إلى بوادر تفاهمات تركية سورية تشير إليها المعركة الدائرة في بلدة جرابلس السورية الحدودية حيث تقاتل القوات التركية و تحاصر مواقع الدولة الإسلامية و تمنع تقدم قوات حماية الشعب الكردية .

يمكن أن يكون هذا التنسيق ” السري” مجرد صفقة أو مقايضة محدودة الأهداف و الزمان و المكان يتخلى فيها الأسد عن تحالفه مع الأكراد مقابل تخلي أردوغان عن فتح حدود بلاده أمام التنظيمات المسلحة، كما من الممكن أنه تنسيق أولي تتبعه تنسيقات أوسع و أشمل يكون عنوانها تطبيع العلاقات التركية السورية.

و هنا يجوز لنا أن نتساءل عن حدود المباركة الأمريكية لهذه التفاهمات و عن مدى ابتعاد تركيا عن أمريكا مقابل اقترابها من روسيا.. ربما يأتي لقاء اليوم الجمعة -الذي يجمع كيري و لافروف- بالإجابات، فترتيبات استئناف المفاوضات بين المعارضة و السلطة السورية قد تُمكِّن من فهم و لو جزء من تفصيلات التطورات و مدى التنسيقات و حدود التقاربات.
نحن نعتقد أن تركيا وفي كل الحالات و الاحتمالات ستدفع باهظا ثمن خياراتها.. إلا أنه من غير المعلوم متى و كيف ..و ماذا سيكون الثمن.
كاتبة تونسية
* رأي اليوم

حول الموقع

سام برس