بقلم / عباس عاصي
برزت التيارات السلفية كلاعب سياسي مؤثر وفاعل في الحياة السياسية في الوطن العربي مع بداية ما يُسمى بالربيع العربي.

بدأت هذه التيارات بالبروز كاحد اهم اللاعبين السياسيين الذين يؤدون دورا مؤثرا في الحياة السياسية من خلال قدرتها على استقطاب الشارع العربي وتشكيل قاعدة شعبية ذات حيثية واسعة. كما تميزت بأيديولوجيتها المختلفة عن الاخوان المسلمين. فقد بدت اكثر ليونة ومهادنة لنظام السيسي في مصر وقريبة من نظم الحكم في الرياض. شكلت الانتفاضات والثورات العربية التي نشبت نهاية عام 2010 وبداية العام 2011 منفذا لهذه الجماعات كي تبدأ ببلورة دورها واستقطاب الشارع العربي بعد سقوط الانظمة التي حالت دون صعودها واستلامها سدة الحكم.

لبنان لم يكن بمنأى عن هذه الظاهرة، فهو يقع في قلب المشرق العربي وعلى الحدود مع سورية التي تشهد نموا سريعا ومؤثرا للتيارات السلفية فيها. فقد شكلت هذه الثورات خصوصا الحرب السورية زخما معنويا وامتدادا لها بغية تشكيل الخلافة الاسلامية ونشر ايديولجيتها الدينية. على الرغم من أهمية هذه الجماعات الا ان دورها المتوقع في الحياة السياسية اللبنانية سوف يكون ضعيفا مقارنة بباقي الدول العربية.

يعود نشوء التيارات السلفية في لبنان الى خمسينات وستينات القرن الماضي، لكن لم يبرز لها دور سياسي يُذكر، باستثناء معارك طرابلس في الثمانينات، حتى اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 15 شباط 2005. حتى ذلك التاريخ كانت هذه التيارات تعاني من حصار الدولة اللبنانية مرفقا بدعم ومساهمة من الجيش والمخابرات السورية خلال فترة وجودها في البلاد 1990-2005. بعد اغتيال الحريري وخروج القوات السورية من لبنان استطاعت هذه الجماعات ان تبرز بشكل اكبر وان تنجح الى حد كبير في استقطاب الشارع السني في لبنان.

ويعود ذلك الى عدة اسباب. اولا، ساهم خروج القوات السورية والتغير في التحالفات السياسية في فكّ القيود الامنية والسياسية التي كانت مفروضة عليها مما ساعدها على اعادة تشكيل نفسها وتفعيل نشاطاتها الدينية والاجتماعية. ثانيا، تحالف تيار المستقبل معها في الفترة التي تلت الانسحاب السوري ساهم ايضا في التعزيز من شعبيتها خصوصا وان تيار المستقبل دافع عنها بغية تعزيز شعبيته داخل الطائفة السنية خصوصا البيئة السلفية. من المعروف ان هذه التيارات تستخدم خطابا طائفيا ودينيا حادا مما يعزز من قدرتها على استقطاب الشارع السني.

ثالثا، ساهم “الانقسام السني الشيعي” في البلاد والذي له جذور اقليمية في التعزيز من قدرة هذه الجماعات على استقطاب الشارع السني مثل التهويل من حزب الله والنفوذ الايراني في لبنان والمنطقة. رابعا، عزز الدعم الخارجي خصوصا السعودي من قدرة هذه الجماعات على تمويل نشاطاتها وتمدد نفوذها في المناطق ذات الاغلبية السنية خصوصا في الشمال اللبناني.

لقد طرح الكثير من الاسئلة حول الدور المرتقب لهذه التيارات وتأثيرها على الحياة السياسية اللبنانية وهل سوف تستبدل الزعامة السياسية التقليدية للسنة في لبنان مثل عائلات الحريري وكرامي والصفدي وسعد وميقاتي؟

ان الدور المرتقب لهذه التيارات يبقى ضعيفا على الرغم من الدعم السياسي والمادي الذي تتلقاه من الخارج وذلك لعدة اسباب. اولا، هذه التيارات لا تملك رؤية موحدة وحاضنة ايديولوجية واحدة. هناك اختلاف حول دورها سياسي فالتيار السلفي في لبنان منقسم لجناحين. الجناح الاول ينادي بضرورة المشاركة السياسية بغية تغيير النظام الطائفي واستبداله بنظام ديني اسلامي، أما الجناح الثاني فيركز على العمل الدعوي التبشيري. ثانيا، المجتمع اللبناني مجتمع متنوع لا يمكن اعتماد لغة اقصائية ورفض الاخر وهي اللغة التي تعتمدها اغلب القيادات السلفية في لبنان.

ثالثا، اعتماد تيار المستقبل على هذه الجماعات كان من اجل استقطاب الشارع السني وليس لاستبداله لذلك سوف يسعى جاهدا لمنعها من لعب اي دور سياسي يُقيّض من دوره وحضوره داخل الطائفة السنية.

رابعا، طبيعة النظام الطائفي في لبنان تفرض على الاحزاب السياسية اللبنانية ان تبني جسورا من التواصل والتحالفات مع باقي الاحزاب مع ما تتطلبه هذه التحالفات من تنازلات سياسية. الخطاب الطائفي والمذهبي لهذه الجماعات يقوض من قدرتها على الوصول الى تسويات سياسية. ولعل ابرز دليل على عدم قدرة هذه التيارات على العمل السياسي السلمي في لبنان هو انها حاولت ان توقع ورقة تفاهم مع حزب الله عام 2008 (وقعها حسان الشهال رئيس جمعية “دعوة العدل والإحسان” وأيدته عدة جمعيات ومؤسسات سلفية مثل معهد الدعوة والارشاد، وقف التراث الاسلامي، جمعية الاخوة للانماء والتربية، جمعية التوعية للانماء والتربية، وقف الخير الاسلامي(الضنية)، تجمع سنابل الخير (عكار() ومن ثم عادت وجمدت العمل بالورقة بعد ان تعرضت لضغوط واعتراضات من شخصيات سنية وقد كان ابرزها من الشيخ داعي الاسلام الشهال.

خامسا، القاعدة شعبية لهذه الجماعات تتركز في شمال لبنان خصوصا في طرابلس والمنية. لذلك في حال ترشحها وفوزها في الانتخابات النيابية القادمة سوف تكون لها كتلة نيابية صغيرة. اما في باقي المناطق التي يوجد فيها سنّة مثل بيروت وصيدا ففيها زعامات سنية تقليدية مثل ال الحريري بالاضافة الى التنوع الطائفي (الشيعي والمسيحي والدرزي) مما يفرض على المرشحين في هذه المناطق ان يبنوا تحالفات عابرة للطوائف كي يفوزوا في الانتخابات النيابية.
يبقى التاثير الابرز لهذه التيارات هو على خصومها السياسيين الذين سوف يسعون لاستقطاب الشارع السني. استخدام هذه التيارات للخطاب الطائفي والمذهبي سوف يدفع بخصومها من الطائفة السنية لاستخدام اللغة المذهبية ذاتها لاقناع مناصريهم بتوجهاتهم وللمزايدة على خصومهم في حماية مصالح الطائفة. هذا سوف يؤثر على قدرة هؤلاء الخصوم على تقديم تنازلات لباقي الاطراف السياسية بعد ان اضطرت الى استخدام خطاب مذهبي تصعيدي وحاد قوّض من امكانية الوصول الى تسويات سياسية.

لعل صعود اشرف ريفي، قائد قوى الامن الداخلي السابق والذي كان قريبا من عائلة الحريري، كشخصية سنية مناوئة لتيار المستقبل وقريبة من التيارات السلفية في الشمال خير مثال على ذلك. استطاع اشرف ريفي ان يوظّف في خطابه ادبيات التيارات السلفية في لبنان مثل قوة حزب الله وغبن الطائفة السنية واستهداف الشيعة لها. كذلك استطاع توظيف التنازلات التي قدمها تيار المستقبل لحزب الله مثل تشكيل الحكومة والتي تضم ممثلين للحزب والاعتراف بالمقاومة في البيان الوزاري والحوار القائم بين الطرفين كي يتهم التيار بالتنازل عن حقوق السنة والخضوع لحزب الله. هذا الخطاب السياسي الحاد ساعده على استقطاب شريحة واسعة من الطائفة السنية والفوز في الانتخابات البلدية التي اجريت هذا العام باغلبية مقاعد بلدية مدينة طرابلس.

من المتوقع ان ايجاد تسوية سياسية في سورية وانهاء الحرب الدائرة فيها سوف يُضعف هذه الجماعات. فالحرب السورية شكلت مادة دسمة في خطاب التيار السلفي وقد استخدمت ادبيات الحرب السورية في خطاب التيار السلفي اللبناني مثل استهداف اهل السنة في لبنان وسورية من قبل النظام السوري وقيام الخلافة الاسلامية. كما عرف عنها تعويلها على هذ الحرب لانهاء خصومها المحليين مثل حزب الله وحلفاء سورية في البلاد.
باحث اكاديمي
Twitter: @DrAbbasAssi
*نقلا عن رأي اليوم

حول الموقع

سام برس