بقلم/ عناية جابر

يحدثُ أن أمشي الهوينا على غير عادتي، أقطع شارع الحمراء من محطة " أبو طالب" لغاية مصرف لبنان، أي أقطع الشارع الرئيسي من أولّه إلى آخره. الهوينا هنا، ليست للغوى، بل لتمّلي ما أحدثتهُ زينة الميلاد ورأس السنة المقبلين في الشارع ومحلات الشارع، ومطاعمه ومقاهيه وناسه.

في الميلاد أكون ألطف، وأعيد بناء جسور مع مَن غبت عنه، مع مَن باعدت بيننا الهموم، ومع أرواح بعيدة ما برحت تُراود نومي في إشارة إلى يأسي من مآلنا العربي الذي يُقلق نومها. حسناً تفعل وعول وغزلان سانتا كلوز بقرونها المُتشابكة، إذ تأتينا طائرة مرتفعة عن الأرض كما رأيناها في الصوَر الملوّنة وأفلام الكرتون، إذ لا أدري ما كان يحّل بها لو أتتنا تتقافز على أقدامها هنا وهناك، على أرضنا المُفخّخة بملايين الأفخاخ.

شارع الحمراء في هذه الأيام، مُظلّل بشرائط فضيّة أنيقة، ويحتشد في زواياه اللونان الأبيض والأحمر على أشكال ميلادية مصحوبة بموسيقى خفيّة، لكنها لا تغادر الإنشاد والتراتيل والصلوات الخيّرة الخاصة بالميلاد والتي تهزم الأشرار على ما نرى في الأفلام .الصلوات نفسها التي أوشكنا على نسيانها، ويُنعشها المطر الآن، والفضاء الرمادي الذي يُضبب السماء.

شجرات ميلادية كبيرة وصغيرة على مدخل هذا المحل وذلك المقهى، خضراء قدر ما يحتملهُ اللون الأخضر، ومُثقلة بطاباتها البلّورية المتوهّجة، والمنفوخة كقلوبنا التي عمل القهر على نفخها. آلاف الطابات مدروزة على أمتار طويلة من زركشات الفضي والذهبي، وملفوفة على أجساد الشجر من قمتها حتى أخمص قاعدتها. أيضاً المغارة، ودفء المهد بين خرفان الرعيان ، وهدأة سرير الطفل الذي لامثيل له، وأشكال المجوس في اهتدائهم حين وسوس لهم النجم في السماء. إنه شارع النبوءات ، لبنانيون وسوريون وعراقيون وأجانب، كما لو الشارع لم يعد شارعاً، بل بيتاً يستنسخ أسلوب الملائكة، ويُغذّي الخيال بأمور تتعلّق بالسماء وحدها.

شارع الحمراء كتاب بيروت، بيان بيروت، الأمر الذي يجعل أياً من عابريه، كما لو في تضاعيف عذبة. لاتخلو مدينة من شارع يرمز إلى وجودها، لكن لشارع الحمراء تحديداً، أكثر من شهادة وتجربة. صحيح أن الشارع لم يعد يؤكّد على هوية سياسية كما عرف في السابق، ففيه اليوم على اختلاط ناسه وهوياتهم، ما يُشبه تجنّب السياسة المباشرة، الأمر الذي اختطه الشارع لنفسه، والمفارقة هنا هي في تأكيد " الاجتماعي " البريء، ضد التورّط في "السياسي" المُريب. عنوان الشارع عام، إلإ أننا نحسّ أن هذا العموم تمويه، فالشارع من أوله إلى آخره يدّل إلى خاص لم يتعيّن بعد. شارع متخلّص من سجالات الماضي، من تعب النقاشات وجلد الذات، إلى روح انشقاقية لا علاقة لها في الظاهر على الأقل بما يجري خارجه.

شارعٌ طويلٌ ضخم كنفق مفتوح، عاشر المدينة في عزّها وعُقمها وسطحيتها، يتزّين في الأعياد فيصبح أكثر ضبطاً وكثافة وإيحاء. إنه يملكُ فيها، رغم شكله الطفولي في العيد، رؤية بؤرية وحساً هائلاً بالمفارقة، وقدرة كبيرة على الموازنة بين الصورة والفكرة. الشارع الذي عُرِف باكتنازه الفكري ومفارقاته الذكية وشبابه المُلهم ، وقدرته الإشارية والإيحائية العالية على أحوال البلد كلهُ. شارعٌ يدل إلى مفارقة بين الظاهر والباطن . شارعٌ لا يبالي بالهويات، بل يستقبل الجميع، الأبيض والأسمر، إبن البلد وإبن المنافي، ويُفسحُ لهم على جانبيه وأحياناً في قلبه، لعرض إبداعاتهم ومنتوجاتهم وتدارك أحوال هجراتهم.

شارعٌ مُتعدّد مُتناقض، ليس شارعاً بالمعنى الهندسي المُتعارَف عليه، وبالتالي ليس نظاماً واحداً، فالسائر فيه يسير بين التناقضات كما ويلعب بها. تلك عناصر، أحسبها أساساً في كونه الأشهر بين شوارع المدينة، والأكثر عراقة. شارع الحمراء ليس تاريخاً فحسب، إنه مباشر وراهن ومحسوس ويتكيّف مع الأحداث التي تجري خارجه ويستوعبها بكل رأفة وبقلب مفتوح.

الميلاد يغزو شارع الحمراء، وأنا أقطعهُ يومياً رواحاً ومجيئاً، فألحظ أنه مغناج يصنع أيامه وتجارته وقوت يومه وعابريه على هواه. إنه يريد لصيته الشائع والواسع أن يكون قوة تحميه من حاضر فارغ، وأن يكون أبداً، سلطاناً على شوارع المدينة والعالم كافة. هو الشارع الفولاذي والشاعري في آن، وهو الجنرال السرّي على كل الشوارع على الرغم من الأحداث التي نالت من هيبته ، وتآمرت عليه وعلى فتنته ولعبه وجدّه، نالت من سلطانه ، لكنه بقي رحماً كبيراً ممتداً على طول تاريخه، بقي شارع الأصدقاء والغرباء وشارع الأرقام وراصِد الغيب والمستقبل والمؤشّر عليهما .

قد يبدو من الغريب، الكلام عن شارع الحمراء وهو من مبان وحجارة فحسب ، كما لو نؤنسنهُ ونُحيلهُ كائناً حيّاّ، لكنه إحساسنا وخيالنا وحتى شعورنا الأكيد. في الحمراء روحٌ تجول عالياً، تحاول إلى حماية المّارة من صراعات الداخل وصراعات الخارج ، وهي وتائر نفسية وفكرية يشعر بها الناس هنا ، إلحاحات وهواجس، ونسيج إنساني تفصيلي وإيقاعات أقدام خفيفة تخشى أن تؤلم الرصفة. إن فيه عالماً ورؤيوياً خاصان، فهو بهذا أجدر بأن يتحوّل بكله إلى مسرح مفتوح لأنه يملك في داخله أكثر من صوت : صوت الأنا وصوت العالم، فرفقاً به ورفقاً بهذه المدينة الشجاعة التي أرضعت الجياع حين كانوا جياعاً، وآوت من تهدّم سقفه ومن احتاج إلى فسحة حرية للتعبير عمّا به.

المصدر: الميادين

حول الموقع

سام برس